في لبنان تتنافى الأزمة مع العجالة، وعلى الرغم من انتشار الأزمة، إلا أنها أنتجت - انطلاقاً من هذا التوصيف - الركود والتراخي واللامبالاة لدى النخب تجاه المآسي والمخاطر اليومية. أما ما يثير الصدمة حقاً فهو الرضا الذاتي الذي يتعايش معه أصحاب النفوذ السياسي، صنّاع الكوارث.
الكارثة مربكة وإن كنت تدرك موقعك. كان من المستحيل معرفة امتداد الدمار وحدوده بعد انفجار مرفأ بيروت الحاصل خلال الصيف الماضي.

لم يسلم مبنى واحدٌ من الدمار ما بين الطرف الغربي لمنطقة الحمرا والطرف الشرقي لمنطقة الكرنتينا. الزجاج المحطم هو الدليل الأكثر وضوحاً على حجم الدمار الممتد على مساحة ستة كيلومترات والذي تخلل جوانب الأرصفة ونواصي الشوارع على مدى أيام فأصبح توصيفاً نمطياً ترتبط به الكثير من الخواطر التي كُتبت عن الانفجار. أما الآثار الحضرية للانفجار فكانت الأكبر حجماً والأوسع نطاقاً.

تعدّ المناطق المواجهة للشمال والمطلة على الساحل والمرفأ مباشرةً الأكثر تضرراً - مع العلم، أنٌ هذه الإطلالة لكانت ميزةً مرغوبة في أي يوم آخر، لا مثيرة للخوف.

امتدّت قوة الانفجار حتى مسافة 17 كيلومترا عبر المدينة، وتجاوزت قوّة بعض الزلازل، ما استدعى النظر في آثار الانفجار الأقل مرئية، كالأضرار البنوية التي تعرّضت لها مئات المباني الموثّقة لدى نقابة المهندسين والمعماريين في الأسابيع التي تلت الانفجار، إضافة إلى الآثار النفسية الجليّة لهذه التجربة التي تحدّت كل الحسابات الاستقرائية.

استلزم الانفجار استكشاف القوى التاريخية التي أنتجت هذه الكارثة، إذ فضح هذا الحدث الجلل الاقتصاد السياسي بشكل صارخ في هذه المدينة التي حافظت على ثباتها على الرغم من - أو بسبب - أوجه التفاوت الحضرية التي خلقها ذاك النظام. من هذه الظروف تولّد الانفجار. بمعنى آخر، انفجار 4 آب 2020 لم يكن كارثةً طبيعية، بل سياسية بالدرجة الأولى.

الروابط

اجتمع فريق من الباحثين في مختبر المدن في بيروت الخريف الماضي لإطلاق مشروع لمواجهة آثار انفجار المرفأ يتألف من مبادرتين تلبيان الحاجات القصيرة الأمد والاعتبارات المتوسطة الأمد للأحياء السكنية وسكانها الأكثر تضرراً، ومبادرة ثالثة – رؤية المختبر للمدينة في مرحلة ما بعد الانفجار – ذات أمد أطول تهدف إلى إنتاج مجموعة من المبادئ التوجيهية وإطلاق رؤية مشتركة للتعافي وإعادة الإعمار في العاصمة اللبنانية.

تستكشف المبادرة الثالثة، التي ترتكز في بحوثها على سلسلة من اجتماعات مائدة مستديرة إلكترونية عُقدت بين تشرين الثاني 2020 وكانون الثاني 2021 بالشراكة مع Columbia World Projects ومختبر مدن ما بعد الصراع Post-Conflict Cities Lab في جامعة كولومبيا، سبع مسائل حضرية مختلفة إنما مترابطة، وتشمل: التواصل في الأحياء السكنية؛ الحفاظ على التراث؛ إعادة بناء المرفأ؛ البيئة والمناخ؛ الإسكان وسياسة الأراضي؛ الحوكمة؛ إعادة تنشيط المساحات العامة. تتكامل هذه المسائل مع بعضها البعض نظرياً وعملياً – فسياسة الإسكان تعنى إلى حد بعيد بالحوكمة، والبيئة تتأثر بشكل جزئي بعدد المساحات العامة وإمكانية الوصول إليها، وغيرها.

وقد كانت المشاركة في الاجتماعات المذكورة جامعةً أيضاً إذ ضمّت السكان المحليّين والمغتربين اللبنانيين والعاملين والمقيمين من عدة بلدان أخرى – كتشيلي وهاييتي والهند وبورتوريكو وإفريقيا الجنوبية وغيرها. وقد ارتبط هؤلاء جميعاً عبر التزامهم الجماعي بالنهوض بنهج حيوي حضري يرتكز على الناس، وهو نهج لا ينبع من الكوارث غير المتوقعة فحسب، كردة فعل عفوية على الهزات الأرضية أو أمواج سونامي وآثارها المتفشية مثلاً. بل هو بمثابة توجّه سياسي نشط يستمد جذوره من أنظمة حكم جائرة توالت على البلاد – وظروف ساهمت في الانفجارات الكارثية كالانفجار الذي أصاب بيروت الصيف الماضي.

أشار المشاركون في أكثر من اجتماع إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمكانية التي سبقت انفجار المرفأ وأنذرت بحدوثه، وهي الظروف التي يجب معالجتها في أي عملية إعادة إعمار وتعافٍ في المدينة والبلاد بشكل عام.

من الكوارث التي سبقت انفجار المرفأ أمْوَلة الأراضي عن طريق المضاربة والتطوير العقاري. فقد أدّت الأرباح العقارية، كونها عمليات وآثار حضرية في الوقت عينه، إلى تحقيق مكاسب غير متوقعة لعدّة نُخب تؤيد سياسات استخدام الأراضي التي أفضت إلى ارتفاع نسب الشغور وأسعار الإيجارات. كما ساهمت هذه الجهود في تسهيل التفكك الاجتماعي المكاني في الحياة اليومية داخل المدينة وتفضيل أصحاب القرار المصالح الخاصة على الاحتياجات العامة، كزيادة المساحات الحضرية المفتوحة وتحسين المرافق العامة.

أما الظرف الثاني الأكثر دقة الذي أشار إليه المشاركون فيتعلق بالدور الضخم الذي يلعبه الاستيراد في اقتصاد لبنان. فمن المعروف أن نحو 80% من المستوردات كانت تدخل البلاد عن طريق مرفأ بيروت حتى لحظة الانفجار. ويقول أحد المشاركين أن النقاشات لم تتطرق بشكل كافٍ إلى الطرق التي تعمد من خلالها السياسات والممارسات الاقتصادية إلى عرقلة حركة التصدير وفرض العقوبات على الصادرات اللبنانية. ويساهم انعدام حوافز التصدير الذي يشمل استثمار القطاع العام  في الصناعات المحلية في اختلال التناسب بين الصادرات والواردات الذي يُحفَّز ويفضَّل ويثبّت في الاقتصاد الوطني.

وهذا الاقتصاد السياسي ليس فريداً من نوعه في لبنان، إذ تتسم معظم الاقتصادات المحلية في الجنوب والشمال العالميين بأمْوَلة المجال الحضري و"تراجع التنمية"، ولكن ما تواجهه بيروت وغيرها من المدن والقرى اللبنانية على مدى الأشهر الثمانية عشر السابقة غير مسبوق.
مؤسسة تجارية تقع على الطابق الأرضي من مبنى تراثي متضرر بنوياً في منطقة الجميزة إثر انفجار المرفأ في 4 آب، 2020 (تصوير: لونا دايخ، آب 2020)
مؤسسة تجارية تقع على الطابق الأرضي من مبنى تراثي متضرر بنوياً في منطقة الجميزة إثر انفجار المرفأ في 4 آب، 2020 (تصوير: لونا دايخ، آب 2020)
المرفأ ونفايات مكدسة على الرصيف كما تبدو من شارع مار مخايل (تصوير: لونا دايخ)
المرفأ ونفايات مكدسة على الرصيف كما تبدو من شارع مار مخايل (تصوير: لونا دايخ)

"الأزمة"

يخبروننا أن التقاء الأزمات، من الإفلاس الوطني وانهيار العملة والتضخّم الجامح والجائحة الصحيّة وتعطّل البنى الأساسية وقابلية البنى التحتية على الانفجار ولامبالاة الطبقة السياسية، هو سبب خراب لبنان اليوم. ولكن استعمال كلمة "أزمة" غير دقيق وينطوي على الكثير من المشاكل.  فهي تستحضر مقياساً زمنياً خاطئاً من حيث وصفها للحدث وكأنّه مفاجئ وليس وليداً للظروف المعيشية ذات طابع تاريخي مشتعل ومتغلغل في الأعماق، أو لحظةً غير مرتقبة ولا متوقعة حتى، ولكن العكس هو الصحيح.


يبدو أن الأزمة تتطلّب حلولاً استثنائية وسريعة - أو وضع سياسات مثلاً، إذ يروّج لهذا الوصف كـ"فرصة" لاتخاذ تدابير حكومية جريئة واستثنائية، كحزمة تدابير محفِّزة وطنية مع مجموعة تعديلات هيكلية وما شابه. أما كمؤشر تحليلي، لا تعكس كلمة الأزمة الوقت المستغرق للوصول إلى الأزمة ولا تأثير القرارات التي تم اتخاذها خلال ذلك. ونادراً ما تبرز كلمة "أزمة" كيف ينذر عدم الاستقرار اليومي، الماضي والحاضر، بالواقع المعاش والمنتظر. وانهيار الليرة اللبنانية خير مثال على ذلك.

فانهيار الليرة مقابل الدولار الأميركي كان صاعقاً، حيث استقرّت على 8,800 مقابل الدولار الواحد على مدى أسابيع في شهر آذار 2021 وحده، ثم في أسبوعين فقط انخفضت إلى 10,000 ثم 12,000 ثم 15,000 ليرة للدولار الواحد. أما الحد الأدنى للأجور الذي كان يبلغ 675,000 ل.ل. – أي ما يعادل 450$ أميركي منذ 18 شهراً – فأصبح يساوي 45$ أميركي فقط، أي عُشر قيمته. إنه لانهيارٌ صادم على الرغم من كونه متوقعاً. حتى التوقٌع صادمٌ في حدّ ذاته، لأن المعرفة بأن الانهيار المالي وشيك لم تؤثر فعلاً في تفاديه.

استمرّ الناشطون والأكاديميون وممثلو المؤسسات المالية الدولية الأكثر نيوليبرالية في لبنان بدق ناقوس الخطر على مدى سنوات طويلة. وتنبأ الخبراء الاقتصاديون المحليون منذ التحوّل الأول في نهاية عام 2019  عن سعر الدولار المثبّت بأنه لا مهرب من انخفاض سعر الليرة إلى 15,000 مقابل الدولار إذا لم تتخذ أي تدابير لتغيير هذا المسار الاقتصادي. لذا فاستخدام كلمة "أزمة" يتناقض مع الأوضاع في لبنان بينما لا يحرّك أحدٌ ساكناً لإحباط تفاقمها.
بعض الشبان الجالسين على درج الجميّزة (تصوير: لونا دايخ)
بعض الشبان الجالسين على درج الجميّزة (تصوير: لونا دايخ)
أبنية تراثية منهارة كما تبدو من شارع صلاح لبكي (تصوير: لونا دايخ)
أبنية تراثية منهارة كما تبدو من شارع صلاح لبكي (تصوير: لونا دايخ)

العجلة

إن السقوط المالي المستمرّ ليس أزمة بل ظرفاً حيث يصرّ المتخصصون في الاقتصاد اللبناني منذ زمن أن الانهيار يعود إلى وجود نادٍ صغير للنخبة التي تتمتع ببحبوحة مالية.  كما أن جذور انفجار المرفأ سياسية أيضاً ولها امتداد زمني أطول من الثواني القليلة التي استغرقها الدمار الذي عمّ أجزاءً كاملة من بيروت. وقد يساعد اعتبار هذه الأحداث والحديث عنها على أنها نابعة من ظروف مشتركة في الابتعاد عن لغة الأزمة ليس بسبب كون اللحظة بالكاد ملحة، بل لأنها ملحة بالفعل.

في لبنان تتنافى الأزمة مع العجالة، وعلى الرغم من انتشار الأزمة، إلا أنها أنتجت - انطلاقاً من هذا التوصيف - الركود والتراخي واللامبالاة لدى النخب تجاه المآسي والمخاطر اليومية. أما ما يثير الصدمة حقاً فهو  الرضا الذاتي الذي يتعايش معه أصحاب النفوذ السياسي، صنّاع الكوارث.

في ظلّ تدهور الظروف المعيشية المستمر، ما زالت هناك توجيهات طويلة الأجل لمشاكلنا الجماعية، ويبدو أن العمل السياسي اللازم لتنفيذها مستحيلٌ وضروريٌ وعاجلٌ ووجوديٌ في الوقت عينه. أما البديل عنه فليس الأزمة بل استمرار الكارثة.
عمر سرّي طالب دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة تورونتو وباحث منتسب لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، ومختبر المدن في بيروت حيث ساهم في البحوث والمؤلفات الصادرة عن اجتماعات المائدة المستديرة التي ترتكز عليها رؤية المختبر للمدينة في مرحلة ما بعد الانفجار.