محدودية الإصلاحات وشروطها في إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار في لبنان
ومنذ عام 2000 إلى 2020، صادقت الطبقة السياسية الحاكمة على بنود عشرات البيانات الوزارية وبرامج المساعدات التي تقتضي تنفيذ إصلاحات هيكلية. ومع ذلك، وبالنظر في نتائج تلك التعهدات، تبيّن من جهودنا السابقة أن أداء الدولة جاء مخيّبًا للآمال وهي لم تفِ بوعودها بل أعادت تقديمها بقالب جديد.1
في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، قدّمت المنظمات الدولية للبنان إطارًا إضافيًا للمساعدات. وقد شملت مراحله الأولى تقديم المساعدات الإنسانية وأطلق عليه اسم إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار. وبالاستناد إلى التحولات في هيكلية المساعدات في دول أخرى بعد وقوع الكوارث فيها وبالنظر إلى سجل الدولة السيئ في هذا المجال، صمّمت وكالات الأمم المتحدة ومعها البنك الدولي والاتحاد الأوروبي هيكليةً مؤسسيةً مبتكرةً لإدارة المساعدات وتوزيعها، وأشركت منظمات المجتمع المدني في هيكلية صنع القرارات (الرسم رقم 1).2 إضافة إلى ذلك، اشترط إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار صرف مبالغ كبيرة من التمويل الميسّر (حوالي 2 مليار دولار) لتنفيذ قائمة من "الإصلاحات الضرورية"، التي أطلق عليها تسمية نقاط العمل وتشمل 16 قطاعًا مثل: الحماية الاجتماعية، والشراء العام، والأعمال التجارية، والقضاء.
وكما يوضح هذا المقال، أخفقت هيكلية المساعدات الجديدة هذه إخفاقًا صارخًا في تنفيذ الإصلاحات. ولم يطبّق إلا جزءٌ ضئيلٌ جدًا من الإصلاحات المقترحة. كما تمّ، تجاهل تلك التي تتطلب التزامًا سياسيًا كبيرًا إلى حدّ كبير. إضافة إلى ذلك، استُمدّت إصلاحات كثيرة وردت في هذا الإطار من برامج مساعدات سابقة. وهذا لا يدل فقط على عدم رغبة الطبقة الحاكمة باعتماد الإصلاحات بل على سعيها أيضًا للاستمرار في استراتيجية المماطلة والتأجيل. وأخيراً، واجهت الإصلاحات المهمة القليلة التي أُقرّت إما التأجيل أو التجاهل أو أُفرغت من مضمونها بمجرد صياغتها في قوانين.
هل كسر إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار النمطَ السائد؟
نشأت عن 66 نقطة من أصل نقاط العمل الـ138 تداعيات قانونية فرضت ضرورة وضع 86 نصًا تشريعيًا وتطبيقيًا من الدولة اللبنانية. تتركز هذه النصوص في أغلبها على القطاعات الآتية: الحماية الاجتماعية والأعمال التجارية والقضاء والشراء العام والمرفأ (الرسم رقم 2). وقد فصّلنا هذه النصوص الـ86 تفصيلاً إضافيًا من خلال تحديد نوع النصوص التشريعية أو التنظيمية التي يجب استحداثها لضمان تنفيذها: قانون أو مرسوم أو قرار وزاري، إذ يتطلب كل نوع منها مستوى مختلفًا من الالتزام السياسي. فالقوانين تستوجب أعلى مستوى من الالتزام السياسي بما أنها تحتاج إلى التوافق بين الأحزاب في السلطة، الأمر الذي يتجلى في عملية التصويت عليها في مجلس النواب. أما القرارات الوزارية الصادرة عن الوزراء بصفة فردية، فتستوجب حدّاً أدنى من الالتزام السياسي. وأخيرًا، تتطلب المراسيم الصادرة عن مجلس الوزراء مستوىً متوسطًا من الالتزام السياسي.
تنطوي الأجندة الإصلاحية الخاصة بإطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، باعتباره إطارًا جديدًا للمساعدات، على عدد كبير من التعهدات التي وعدت بها الدولة اللبنانية في مؤتمرات سابقة للجهات المانحة الدولية ولكنها لم تنفذها أبدًا. فقد تعهدت سابقًا في مؤتمر باريس 3 أو مؤتمر سيدر أو من خلال عمل الحكومة ومجلس النواب المتواصل على السياسات، بتنفيذ 52 من أصل النصوص التشريعية والتطبيقية الـ86 المذكورة في الأجندة الإصلاحية (الرسم رقم 4).
يتعلق المثال الأوّل بقانون الشراء العام، الذي أقرّه مجلس النواب عام 2021 بعد أن تم التعهد بسنّه في مؤتمر باريس 2 سنة 2002. إلا أنّ أحكام هذا القانون لا تُطبّق. ففي 6 شباط/فبراير 2023، منح مجلس الوزراء عقدًا عامًّا لإحدى الشركات لتنفيذ أعمال التنظيف والصيانة في مبنى وزارة التربية والتعليم العالي دون إطلاق أي مناقصة عامة.7 كما عدّل مجلس النواب مؤخرًا قانونًا يقضي بإعفاء الأجهزة الأمنية من الالتزام به وأضاف إليه بعض الشروط التي قد تعيق المنافسة في عملية الشراء.
أما المثال الثاني فيتعلّق بتوسيع نطاق المساعدات الاجتماعية من خلال المشروع الطارئ لشبكة الأمان الاجتماعي المخصّص للبنان، وهو برنامج يُعنى بالأمان الاجتماعي مموّل من البنك الدولي. ففي كانون الأوّل/ديسمبر 2021، أقرّت الأحزاب السياسية الحاكمة قانونًا يشرّع هذا البرنامج، وذلك بعد مرور حوالي السنتين على اقتراح هذا القانون. ويعود السبب في ذلك بالدرجة الأولى إلى محاولات التدخل الكثيرة في تصميم البرنامج، لا سيما في قيمة المساعدات التي ستُوزّع وعملية اختيار المستفيدين وآليات المراقبة.8
المساعدات المشروطة في سياقات الفساد وسرقة المال العام
لذلك، وكما عبّرنا سابقًا في المقالات التي سلّطت الضوء على كيفية تحوّل قطاع المساعدات إلى نظام متصدّع يمنح الحلول التقنية قصيرة المدى الأولويةَ على حساب تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي (إضافة إلى زيادة اللامساواة الهيكلية والتسبب في المزيد من الاختلالات في موازين القوى)، لا يسعنا سوى أن نشكّك في الفائدة التي يمكن تحقيقها من برامج المساعدات الدولية المشروطة التي يبدو وكأنها تساهم في الحفاظ على استمرارية قطاع المساعدات نفسه لا أكثر.9 كما أنّنا نعبّر عن قلقنا من إمكانية استفادة الطبقة الحاكمة وشبكاتها من فرص استثمارية جديدة بموجب هذا الإطار في المستقبل القريب، نظرًا للتجربة السابقة المتمثلة في عقود الشراء المرتبطة بالبنية التحتية لمجلس الإنماء والإعمار والتي لُزّمت للشركات التي يملكها السياسيون المنتمون إلى هذه الطبقة. ولعلّ الإطار ليس إلا خارطة طريق سيحاولون حتماً سلوكه من جديد.10
نُشرت هذه المقالة على موقع مبادرة سياسات الغد كجزء من مشروع أطلقته بالمشاركة مع مختبر المدن في بيروت وبتمويل من مركز بحوث التنمية الدولية International Development Research Centre (IDRC).
1 الرجاء مراجعة مثال مؤتمر باريس 3، سيدر، البيان الوزاري لحكومة الرئيس حسّان دياب، والخطة المدعومة فرنسيًا: عطالله، س.، م. مهملات، س. زغيب، 2018. "برنامج سيدر الإصلاحي: الدروس المستخلصة من مؤتمر باريس 3." المركز اللبناني للدراسات.؛ عطالله، س.، ج. داغر، م. مهملات. 2019. "برنامج سيدر الإصلاحي بحاجة لخطة عمل موثوقة." المركز اللبناني للدراسات.؛ مكتبي، و.، س. زغيب. 2020. "مرصد الحكومة رقم 14- تعهدات الحكومة لأوّل مئة يوم: إنجاز 89% منها." المركز اللبناني للدراسات.؛ مكتبي، و.، س. زغيب. 2020. "مرصد الحكومة رقم 16 - الخطة المدعومة فرنسيًا: تقديم وعود جديدة لتنفيذ الإصلاحات القديمة. المركز اللبناني للدراسات.
2 للاطلاع على المزيد من التفاصيل، الرجاء مراجعة بلوميكي، ص.، م. حرب. 2022. "إدارة الكوارث وفعالية المساعدات: حالة إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار في لبنان." مبادرة سياسات الغد.
3 عطالله، س.، م. مهملات، س. زغيب. 2018. "برنامج سيدر الإصلاحي: الدروس المستخلصة من مؤتمر باريس 3." المركز اللبناني للدراسات.؛ عطالله، س.، ج. داغر، م. مهملات. 2019. "برنامج سيدر الإصلاحي بحاجة لخطة عمل موثوقة" المركز اللبناني للدراسات.
4 استعنا بتقرير التقدم المحرز في تنفيذ إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار حتى حزيران/يونيو 2022 لمتابعة التقدم المحرز في تنفيذ نقاط العمل هذه.
5 عطالله، س.، م. مهملات، س. زغيب. 2018. "مؤتمر سيدر: الحاجة لآلية فعالة لرفع التقارير". المركز اللبناني للدراسات.
6 عطالله، س.، م. مهملات، س. زغيب. 2018. برنامج سيدر الإصلاحي: الدروس المستخلصة من مؤتمر باريس 3." المركز اللبناني للدراسات.
7 مجلس الوزراء. شباط/فبراير 2023. "من محضر جلسة مجلس الوزراء." رقم المحضر 35، رقم القرار 28. تم الوصول إليه عبر الرابط الآتي: https://twitter.com/ElGherbalOrg/status/1623958019355598848
8 مكتبي، و.، س. زغيب، س. عطالله. تشرين الثاني/نوفمبر 2022. " نجاةٌ بأعجوبة: أفلت المشروع الطارئ لشبكة الأمان الاجتماعي المخصّص للبنان من قبضة الطبقة السياسية" مبادرة سياسات الغد.
9 الرجاء مراجعة المقالات الآتية على سبيل المثال: إيسترلي و. 2006، كتاب "The White Man’s Burden: Why the West’s Efforts to Aid the Rest Have Done So Much Ill and so Little Good"، بينغوين بوكس؛ موس د.، 2005، كتاب "Cultivating Development: An Ethnography of Aid Policy and Practice"، بلوتو برس؛ بولمان ل.، 2011، كتاب "The Crisis Caravan: What’s Wrong with Humanitarian Aid"، ميتروبوليتان بوكس؛ وهيكل ج.، 2017، كتاب "The Divide: A Brief Guide to Global Inequality and its Solutions" ، ويندميل بوكس
10 مهملات م.، س. عطالله، و. مكتبي، آذار/مارس 2021. "قيمة مقعد على الطاولة: كيف تتدخل الطبقة الحاكمة في عقود الشراء العام الخاصة بمشاريع البنية التحتية،" المركز اللبناني للدراسات.؛ مهملات، م.، و. مكتبي، أيلول/سبتمبر 2022. "احتكارات الشراء العام الخاصة بمشاريع البنى التحتية - أدلة من لبنان." مبادرة سياسات الغد