ليست أضرارًا جانبية بل محوٌ ثقافيٌ متعمّد

هويدا الحارثي
لطالما استُهدف التراث الثقافي خلال في الحروب لأنه يمثل هوية وقيم وتاريخ المجتمع. وهذا التراث غالباً ما يكون أول ضحايا النزاعات لما يرمز إليه من ثوابت وذكريات عزيزة وموروثات تناقلتها الأجيال. شهد التاريخ الحديث على خروقات عديدة لاتفاقية لاهاي التي عُقدت في عام 1954 وللقانون الدولي الإنساني الذي تلاه، واللذان يمنعان  ضرب مواقع التراث الثقافي، نذكر منها تدمير الجيش اليوغوسلافي لوسط مدينة دوبروفنيك التاريخي بين عامي 1991 و1992 وهو موقع تراث عالمي مدرج من قبل منظمة اليونيسكو، وتدمير الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لهياكل بعل شمين وبل في مدينة تدمر القديمة عام 2015. لا تُخاض الحروب على الاهداف العسكرية فحسب بل على النسيج الثقافي للأمم أيضاً بهدف محو الذاكرة الثقافية وتعطيل الهوية وإضعاف الوحدة المجتمعيّة. إنّ العمليّات العسكرية التي تشنّها إسرائيل على لبنان مثال أسود على الآثار الكارثية لهذا التدمير المقصود.

على مدى الأسابيع الماضية استهدفت إسرائيل مواقع التراث الثقافي في لبنان بشكل منهجيّ. هذه الضربات، كما هي الحال في غزة، متعمّدة ولها عواقب وخيمة. إن تدمير المباني والمعالم والآثار ليس إلا سطح جرح غائر ينخر في الذاكرة والهوية الجماعية. فالتراث الثقافي هو في صلب شعور الناس بالانتماء وارتباطهم بأرضهم وتاريخهم.
لفتت التهديدات الإسرائيلية بتدمير الآثار الرومانية في مدينتي بعلبك وصور أنظار العالم وحشدت إدانات واسعة النطاق، ولكن الدمار كان قد حصل فعلاً وإن لم يطل تلك المواقع الرمزية. فقد دمّر العدوان مبانٍ تاريخية وأسواق تقليدية وقرى وعطّل طقوسًا قديمة تتمحور حول الحصاد وغيرها من الممارسات الثقافية التي تشكل رابطًا متينًا بين الناس والأمكنة. فإن هذه الممارسات تحدد الهويّة المشتركة وتزرع شعوراً بالفخر يصعب - إن لم يستحِل - تعويضه.
بعلبك (الصورة: سام سكيني، وكالة الصحافة الفرنسية، تشرين الثاني 2024)
بعلبك (الصورة: سام سكيني، وكالة الصحافة الفرنسية، تشرين الثاني 2024)
بعلبك (الصورة: نضال الصلح، وكالة الصحافة الفرنسية، تشرين الثاني 2024)
بعلبك (الصورة: نضال الصلح، وكالة الصحافة الفرنسية، تشرين الثاني 2024)
إن حملة التدمير التي تستهدف التراث الثقافي وما يشمله من معالم الوطنية ومواقع التراث العالمي التابعة لليونيسكو ليست عرضية بل جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية عسكرية. كما أن العواقب ليست مادية فحسب بل نفسية واقتصادية وثقافية. إنّ كل مسجد وكنيسة ومساحة مشتركة تعرّضت للتدمير مخزنٌ للذكريات المشتركة والطقوس والتواريخ الجماعية. ليست هذه الأماكن مجرّد رموز دينية أو تاريخية بالنسبة إلى الشعب اللبناني فحسب، بل هي مراكز حيويّة تتمحور حولها الحياة اليومية الاقتصادية والاجتماعية والهوية. فخسارة التراث الثقافي طعنة في معنى الانتماء.

في الأشهر الماضية دمّرت العمليات العسكرية الإسرائيلية جنوب لبنان وسهل البقاع مستهدفةً لا المعالم فحسب بل الممارسات الثقافية التي تحافظ على هوية المجتمع. تعرّضت مدينتي بعلبك وصور، التي تتميّز بآثارها الرومانية والفينيقية ومواقع أثرية أدرجتها منظمة اليونيسكو كمواقع تراث عالمي، للقصف الجوّي. وفي 6 تشرين الأول 2024 دمّرت الصواريخ الإسرائيلية التي أُطلقت بالقرب من معبد باخوس الروماني في بعلبك جزءًا من جدار حجري. كما ألحقت ضربة أخرى أُطلقت في 7 تشرين الثاني 2024 ضررًا بالغًا بمبنى المنشيّة العثمانية المجاور للهياكل الرومانية. وتعرّضت مدينة صور لعدة ضربات، حيث هدّدت الضربات الجوية سلامة المواقع الأثرية والتاريخية يومي 23 و28 تشرين الأول.
تجاوز نطاق الدمار الآثار القديمة ليشمل المباني الدينية والعمارة الشعبية والأسواق والمساحات المجتمعية، حيث تعرّضت المساجد والمقامات الدينية في بعض القرى كيارون ومارون الراس وبليدا، وكذلك كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك في صور وقلعة تبنين الصليبية، للتدمير أو الضرر. في 14 تشرين الأول استهدفت الضربات الجامع العثماني في كفر تبنيت ودمّرت أجزاءًا كبرى من سوق النبطية الذي يعود تاريخه إلى مئتي عام والذي استُهدف للمرة الرابعة في 14 تشرين الثاني. كما دمّرت الضربات كنيسة القديس جاورجيوس في دردغيا والمقام الأيوبي في بعلبك – دوريس ومقام النبي بنيامين في محيبب يومي 9 و16 تشرين الأول. إضافةً إلى الضربات السابقة، استهدفت الضربات بيت البعلبكي في العديسة يوم 29 تشرين الأول وهو مركز ثقافي أسّسه الفنان اللبناني الراحل عبد الحميد بعلبكي. تمثّل هذه المساحة الثقافية التي لطالما استضافت المعارض الفنية والحفلات الموسيقية واللقاءات الفكرية نموذجًا من العدوان الأوسع الذي استهدف المشهد الثقافي اللبناني.
	يارون، جنوب لبنان (الصورة: وكالة الصحافة الفرنسية، حزيران 2024)
يارون، جنوب لبنان (الصورة: وكالة الصحافة الفرنسية، حزيران 2024)
    سوق النبطية (الصورة:عباس فقيه، وكالة الصحافة الفرنسية، تشرين الأول 2024)
سوق النبطية (الصورة:عباس فقيه، وكالة الصحافة الفرنسية، تشرين الأول 2024)
لفهم ماهية دمار التراث الثقافي، يجب توسيع تعريفنا "للتراث". فهو لا يشمل البنى التذكارية أو الملموسة (المادية) فحسب بل يضمّ أيضًا الجوانب غير الملموسة (المادية) للتراث الثقافي – كالممارسات اليومية والطقوس والعادات التي تشكّل الحياة في المجتمع. هذه الممارسات كزراعة أشجار الزيتون وإعداد المأكولات التقليدية والاحتفال بالمناسبات الثقافية لها نفس القدر من الأهمية في تعزيز الهوية المجتمعية كالمعالم والآثار.
لم يعطّل النزاع المستمّر في لبنان المشهد المادي بل النسيج الاجتماعي-الاقتصادي المتمثّل بالحياة اليومية. فالنشاطات التقليدية كقطاف الزيتون وإنتاج المربيات التي تربط الناس بالأرض مهدّدة بالضياع اليوم بسبب النزوح والدمار. يهدف هذا العدوان على التراث الملموس وغير الملموس إلى قطع الصلة بين الناس وثقافتهم وإضعاف التلاحم الاجتماعي والاستمرارية.

لاستهداف التراث الثقافي آثار خفية، أخبثها التهجير القسري. فاقتلاع المجتمعات وتشريدها يعطّل الممارسات الثقافية. يترافق التدمير المادي مع فقدان الاستمراية الثقافية إذ يفصل الناس عن إرثهم الثقافي لا منازلهم وممتلكاتهم فحسب. كما يفصل الناس عن ماضيهم وأرضهم وبعضهم البعض مرسّخًا لديهم شعور الفقد والتشتّت.
إن الهجمات التي تشنّها إسرائيل على تراث لبنان الثقافي شكل من أشكال الحرب النفسية التي تُشعر الناس بالانكسار وتلغي إحساسهم بذواتهم. في هذا السياق، لا يتمثّل التراث بمجموعة من البنى والآثار فحسب بل هو عملية دينامية تشكّل هوية الناس وتحافظ على ارتباطهم بالمكان. إسرائيل لا تسعى من خلال استهداف هذه المواقع إلى محو رموز التاريخ اللبناني المرئية فقط بل تريد القضاء على النسيج الاجتماعي الذي يمدّ هذه الرموز بالحياة.

يؤكد تدمير التراث الثقافي في لبنان على ضرورة حماية المواقع والممارسات الثقافية خلال النزاعات من خلال أطر وضمانات محلية ووطنية ودولية. في بيان نشره في 17 تشرين الأول 2024، أدان المجلس الدولي للمعالم والمواقع (إيكوموس) تدمير المواقع التراثية و"النسيج الحي للقرى والمستوطنات الريفية" ودعا "جميع الأطراف إلى بذل ما في وسعها لحماية التراث الثقافي واحترام التزاماتها نصًا وروحًا بموجب القانون الدولي، سواء التعاهدي أو العرفي." كما شدّدت إيكوموس "أنّ الاستهداف المتعمد للمواقع الثقافية والدينية (التي ليست أهدافا عسكرية مشروعة وليس لها ضرورة عسكرية حتمية)، كغيرها من الأهداف المدنية، محظور تحديدًا في القانون الإنساني الدولي، تحت أي ظرف من الظروف، ويعتبر جريمة حرب."
بعيدًا عن رمزيّته، للدمار عواقب اجتماعية-ثقافية واقتصادية بعيدة المدى تعرقل عملية التعافي. يجب حماية التراث الثقافي حفاظًا على الماضي وتعزيزًا للصمود والتصالح في المجتمعات ما بعد النزاع.

يجب أن تتجاوز جهود التعافي حماية المعالم وأن تشمل إنعاش الممارسات الثقافية وإسترجاع الصلة بين الناس وأرضهم. لا يُختصر التراث الثقافي بآثار الماضي بل هو ركيزة للنمو في المستقبل وأساس للهوية واللحمة الاجتماعية والتعافي الاقتصادي. لا يمكن للمجتمعات إعادة بناء مشاهدها المادية واستعادة الاحساس بالذات والانتماء إلا من خلال حماية التراث الملموس وغير الملموس.

يسلّط الاستهداف المتعمد للتراث الثقافي في لبنان، كما هو الحال في غزة، الضوء على آثار الحرب الوخيمة على هوية المجتمع وذاكرته الجماعية إلى جانب الخسائر في الأرواح والممتلكات. فعدا عن كونه تعدٍّ على البنى المادية من معالم وطنية ومواقع الدينية وعمارة  الشعبية وممارسات ثقافية يومية، هذا التدمير اعتداء على جوهر المجتمع ككل. وبينما نشهد هذا الدمار الذي يطال المشاهد المنحوتة بروايات مقدسة وفي المدن التي تُعدّ من أقدم المدن المأهولة في العالم، تتكشّف لنا حقيقة دامغة هي أن التراث الثقافي عنصر حيوي لمواصلة العيش والتحمّل والازدهار وليس ترفًا أو أمرًا ثانويًا يمكن الاستغناء عنه.

المراجع


- بيكي ليتل 7 Cultural Sites Damaged or Destroyed by War، مجلة هيستوري History، 9 كانون الثاني، 2020

هيلين والاس Bosnia and the Destruction of Cultural Heritage، 2015

 - هويدا الحارثي The Politics of Identity Construction in Post War Reconstruction  في كتاب Lessons inPost-War Reconstruction: Case Studies from Lebanon in the aftermath of the 2006 War، تحرير هويدا الحارثي (Routledge راوتليدج، 2010)

- هويدا الحارثي ودينا منيمنة The [Framing] of Heritage in the Post-war Reconstruction of BeirutCentral District (Lebanon)، في كتاب Urban Recovery: Intersecting Displacement with Post War Reconstruction، تحرير هويدا الحارثي. لندن ونيويورك:Routledge راوتليدج (2022)

- جاين عراف وجواد رزق الله Israel strikes Lebanon’s ancient city of Baalbek, as tens of thousands of people flee، NPR، 31 تشرين الأول2024

- مارتن كاورد، Urbicide: The Politics of Urban Destruction، 2008

- مايا جبيلي وميلان بافيشيشIsraeli campaign leaves Lebanese border towns in ruins ، رويترز Reuters، 29 تشرين الأول 2024

- نيفين حشيشو "إسرائيل تخرب المواقع التاريخية في لبنان"، الصفر Alsifr.org، 1 تشرين الثاني 2024

- فيليب بيرنوت Concern for Lebanon's heritage grows as Israel intensifies destruction of historic landmarks، العربي الجديد The New Arab، 28 تشرين الأول، 2024

- صوفي قنسطنطين Lebanese archaeological heritage is now facing existential threat: Israeli air strikes، The Jordan Times، 29 تشرين الأول، 2024