استعادة علاقة بيروت بمرفئها: تداعيات مقترحات إعادة إعمار المرفأ على مستقبل المدينة

منى فواز - 5.11.2025

مقدّمة

أدّى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 إلى دمار واسع النطاق في المدينة ومرفئها. فقد تضرّر ما لا يقل عن ثلث مباني المدينة بدرجات متفاوتة، وسقط عدد كبير من الضحايا (الخريطة 1). وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، بقي النقاش العام حول كيفية إعادة إعمار مرفأ المدينة محدودًا نسبيًا ويجري خلف أبوابٍ مغلقةٍ. ومع ذلك، هناك أدلّة وافرة تشير إلى أنّ الإطار الذي ستتمّ ضمنه إعادة بناء المرفأ وتطويره، والترتيبات المؤسّساتية والتنظيمية التي ستنظّم عمله، وموقعه على المستوى الوطني وعلاقته بالمدينة، جميعها ستترك آثارًا بالغة الأهمية على المستوى الوطني.
الخريطة ١: خريطة الدمار وموقع انفجار المرفأ – مرصد مختبر المدن بيروت (خريطة تعافي بيروت). المصدر: https://beirutrecovery.org/://beirutrecovery.org/
الخريطة ١: خريطة الدمار وموقع انفجار المرفأ – مرصد مختبر المدن بيروت (خريطة تعافي بيروت). المصدر: https://beirutrecovery.org/://beirutrecovery.org/

 

 

جسّد الانفجار ذروة سنوات من الإهمال وسوء الإشراف والادارة المجزّأة في مرفأ بيروت، وكشف الحاجة الملحّة لإصلاح نظام حوكمته وإدارته. فالمرفأ، الذي أُوكلت إدارته إلى لجنة مؤقّتة احتكرت القرارات والأرباح بطرق خارجة عن القانون، توسّعت وظائفه ليعمل بشكل مستقل عن المدينة، مستخدمًا إيّاها كممرّ أو فناء خلفي، من دون أي استثمار أو علاقة تنموية تكاملية تعود بالنفع على سكانها. أمّا تخزين المواد المتفجّرة بشكل مهمل لما يقارب العقد من الزمن، فقد كشف عن فساد صارخ وسوء إدارة، وعن خلل مؤسّساتي عميق أتاح وقوع كارثة بهذا الحجم. وبذلك، تفاقمت الخسائر العامّة التي طالما نُدّد بها في المدينة والخزينة الوطنية جرّاء إدارة المرفأ الخاصة، بفعل المخاطر التي نجمت عن ممارسات التخزين السيئة.

منذ آب 2020، انخرط مختبر المدن بيروت بفاعلية، من موقعه كمركز بحثي، في جهود دعم تعافي المدينة ومرفئها بعد الكارثة. فقد نظّم المختبر نقاشات مغلقة وعلنية حول إعادة إعمار المرفأ، وشارك في اجتماعات تداولية وعامّة لعدة مقترحات، كما ساهم في العديد من اللقاءات الخاصة والعامة. وسعى باحثو المختبر إلى جعل جميع المقترحات المطروحة متاحة للجمهور، وتوضيح تفاصيلها، وتأمين الحدّ الأدنى من الشفافية المطلوبة كخطوة أولى نحو المساءلة والتخطيط الرشيد.

وفي هذا الإطار، ينشر المختبر اليوم مذكرة مقارنة مختصرة بين المقترحين الرئيسيين لإعادة إعمار المرفأ، واللذين نُسميهما تيمّنًا براعييهما الرئيسيين: مقترح البنك الدولي والمقترح الفرنسي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ مقترح البنك الدولي كان متاحًا على نطاق واسع، ونوقش علنًا ونُشر على الإنترنت، في حين أنّ الدراسة الفرنسية لم تُنشر رسميًا وظلّت إلى حدّ بعيد غير متاحة ويستند تحليلنا لها إلى المواد التي تمكّنّا من الحصول عليها. كما قمنا بنشر تسجيل عرض المشروعين الذي أُقيم بين 25 و27 حزيران 2024 بتنظيم مشترك بين المختبر والمركز العربي للعمارة ACA)) ومعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت. ونختتم بعدد من التوصيات التي ينبغي التمسّك بها في أي سيناريو لإعادة الإعمار. كما يمكن الاطلاع على ملاحظات إضافية قدّمها نقيب المهندسين السابق جاد تابت خلال الفعالية نفسها، والمنشورة على الرابط المشار إليه.

 

الأضرار داخل المرفأ
تسبّب الانفجار بأضرار جسيمة داخل نطاق المرفأ، ولا سيّما في المناطق غير المخصّصة للحاويات، وتحديدًا عند الرصيف الفاصل بين الحوضين الأول والثاني حيث تدمّرت صوامع القمح لحد لا يمكن ترميمه (الخريطة 2). وبحسب جميع التقارير المهنية، فإنّ الأضرار التي لحقت بالرصيف الفاصل بين الحوضين الثاني والثالث هي هيكلية، وتُعدّ كلفة إصلاحه باهظة جدًا إذا ما أُريد له أن يدعم بنى تحتية ثقيلة كما كانت الحال سابقًأ. كذلك، تضرّرت بشدّة منطقة الشحن التي كانت تضمّ بشكل أساسي عنابر (ومن بينها العنبر الذي انفجر)، والمنطقة الحرّة، ومحطة الركّاب، إلى جانب المنشآت العسكرية الموجودة في المنطقة.

في المقابل، لم تتأثر محطة الحاويات، التي شكّلت ما يُقدّر بـ 80% من نشاطات المرفأ، سوى بشكل محدود، إذ عادت إلى العمل بعد أسابيع من الانفجار. وقد أوكلت وزارة الأشغال العامة والنقل اللبنانية تشغيلها إلى شركة الشحن العالمية CMA-CGM، التي مُنحت في شباط 2022 امتيازًا لمدة عشر سنوات لإدارة وتشغيل وصيانة محطة الحاويات في مرفأ بيروت.

لذلك، تتركّز معظم النقاشات الراهنة حول التنمية الطويلة الأمد للمرفأ في المنطقة المتضرّرة من الشحن، حيث تمرّ الواردات الحيوية للبلاد (كالقمح والسيارات والبضائع الصلبة والسائلة)، وحيث يُمكن لإعادة التطوير أن تستقطب أنشطة اقتصادية واستثمارات جديدة للمدينة. كما أنّ الظروف المأساوية التي تدمّر فيها المرفأ والأحياء المحيطة به دفعت بالمطالب الشعبية إلى تضمين التخطيط مساحاتٍ للحِداد الجماعي والذكرى والمساءلة. ولا يمكن تحقيق أي إصلاح أو إعادة إعمار من دون إعادة هيكلة الإطار المؤسسي وتحديث شامل للبنية التحتية للمرفأ. وباختصار، فإنّ إعادة إعمار مرفأ بيروت يجب أن تتعامل مع تحدّيات متعدّدة تستجيب لمتطلّبات مؤسسية وتقنية واقتصادية واجتماعية.


الخريطة ٢: خريطة وظائف المرفأ قبل الانفجار. المصدر: خريطة من إعداد مختبر المدن بيروت.
الخريطة ٢: خريطة وظائف المرفأ قبل الانفجار. المصدر: خريطة من إعداد مختبر المدن بيروت.

ما هما المقترحان الرئيسيان المطروحان اليوم لما بعد التعافي؟

كما ذكرنا أعلاه، طُرحت عدّة مقترحات بعد انفجار مرفأ بيروت. كان أولها في نيسان 2021، وقد أعدّته أربع شركات استشارية متخصّصة هي: Hamburg Port Consulting، وColliers International، وFraunhofer IMW، وRoland Berger. اقترح هذه الدراسة مشروع إعادة تطوير عقاري وسكني واسع النطاق يطال أجزاء كبيرة من المرفأ. غير أنّ المقترح رُفض سريعًا لعدم ملاءمته. وفي السنوات اللاحقة، قُدّم مقترحان إضافيان لا يزالان حتى اليوم مطروحان على الطاولة. فيما يلي عرضٌ موجز ومقارنة بين هذين المقترحين.

الاقتراح الأول: مقترح البنك الدولي
يضع هذا المقترح مرفأ بيروت ضمن رؤية وطنية شاملة لقطاع المرافئ في لبنان. ويقترح استراتيجية تنمية طويلة الأمد تُعيد تحديد دور مرفأ بيروت ضمن منظومة مترابطة مع أربعة مرافئ أخرى على الساحل اللبناني (صور، صيدا، جونية، وطرابلس). ويرى المقترح أنّ مرفأ بيروت يمكن أن يتحوّل إلى "مرفأ بوّابة إقليمية يعمل كمحرّك للتعافي الاقتصادي الوطني" (تقرير البنك الدولي، نيسان 2024، ص. 50)، فينتقل من كونه مركزًا معزولًا إلى رافعة اقتصادية ذات وظائف إدارية وحكومية تمتد آثارها إلى المدينة. بناءً على ذلك، يُقترح أن يقتصر استقبال المرفأ على البضائع ذات القيمة العالية، بهدف الحدّ من الأثر البيئي والمخاطر وحركة الشاحنات الكثيفة، فيما يُعاد توجيه باقي حركة البضائع إلى الموانئ الجافة الواقعة في المناطق الداخلية. هذا التحوّل يتيح للمرفأ فرصة استقطاب أنشطة ذات قيمة مضافة أعلى تخدم المصلحة الوطنية وتُعزّز دور بيروت كمركز اقتصادي رئيسي.

تكمن المساهمة الأساسية للمقترح في توسيع وتنوّع القيمة الاقتصادية للمرفأ. فبعد دراسة دقيقة لتوقّعات النمو المستقبلي لمرفأ بيروت واحتياجاته المكانية حتى عام 2040، إلى جانب تدقيقٍ تفصيلي في استخدام المساحات، اقترحت الدراسة استعادة التكامل التاريخي بين المرفأ والمدينة عبر فتح جزء كبير من المرفأ أمام مرافق ترفيهية وسياحية (كواجهة بحرية ومحطة للرحلات البحرية)، وإنشاء منطقة اقتصادية خاصة ومركز ابتكار ومنطقة تذكارية مكرّسة، مع الإبقاء على النشاطات الصناعية واللوجستية لضمان أقصى قدر من المنافع الاجتماعية والاقتصادية على المستويين الحضري والوطني (الخريطة 3). كما يتضمّن المقترح تدابير الاستدامة في تصميم المرفأ وتشغيله على المدى الطويل. إضافةً إلى ذلك، يقترح إصلاح نظام الحوكمة الحالي عبر سنّ قانون جديد لإدارة المرافئ وإنشاء سلطة مرفئية  (نموذج "المالك والمشغّل" Landlord Model) تتكوّن من مجلس إدارة يمثّل عدّة أطراف من ضمنها السلطات البلدية.

أُعدّت هذه الدراسة من قبل ائتلاف لبناني-هولندي ضمّ شركتي Royal Haskoning DHV ورفيق الخوري وشركاه، وقد طُوّرت خلال سنتين تحت إشراف فريق النقل في البنك الدولي الذي استقطب عددًا من الخبراء الدوليين (منهم مصمّمون حضريون)، ونظّم اجتماعات تشاركية متعددة شارك فيها مهنيون ومجموعات محلية. تمّ تمويل الدراسة من خلال مرفق التمويل للبنان (LFF)، وهو صندوق ائتماني متعدد المانحين أُنشئ بعد الانفجار لتجميع المساهمات من جهات دولية مانحة من بينها حكومات كندا، والدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، والنرويج، والاتحاد الأوروبي. يمكن الاطلاع على تفاصيل إضافية في تقارير البنك الدولي المنشورة للعامة.
الجدول ١: المساحات المخصّصة للمناطق – مقترح البنك الدولي
الجدول ١: المساحات المخصّصة للمناطق – مقترح البنك الدولي
الخريطة ٣: مخطّط إعادة الإعمار والتطوير لمرفأ بيروت (مقترح البنك الدولي) المصدر: خريطة من إعداد مختبر المدن بيروت
الخريطة ٣: مخطّط إعادة الإعمار والتطوير لمرفأ بيروت (مقترح البنك الدولي) المصدر: خريطة من إعداد مختبر المدن بيروت

 

الاقتراح الثاني: المقترح الفرنسي

تبلور هذا المقترح بعد عامين، وقد قُدّم كاستجابة طارئة مرحلية للحاجة إلى تنفيذ أعمال عاجلة لإصلاح مناطق الشحن التي تضرّرت بشدّة من الانفجار (الخريطة 4). يطرح المشروع سبع رُزَم عمل (Work Packages)  تتضمّن مجموعة من أعمال البنية التحتية المستندة إلى مخطّط توجيهي يُقدَّم كـ "خيار تلاقي" بين الدراسات السابقة. وتشمل هذه الرُزَم توسيع أحد الأرصفة القائمة (الرصيف 9 في الحوض الثالث) الذي ستُنشأ عليه اهراءات الحبوب الجديدة، إضافة إلى تنفيذ انشاءات بحرية داعمة. كما يعيد المقترح تنظيم حركة السير والمداخل والمخارج لتحسين الأداء الداخلي للمرفأ. وتوقّعت الدراسة قدرة سلطات المرفأ على تمويل هذه الاعمال ذاتيًا في السنوات المقبلة.

نشأت الدراسة عن تعاونٍ بين البعثة الوزارية المشتركة لتنسيق الدعم الدولي للبنان (MICOL) ومؤسّسة Expertise France، واستعانت بفريق من الخبراء الرائدين في فرنسا من خلال ائتلاف ARTELIA–EGIS، وقدّمت توصيات قابلة للتنفيذ. وإلى جانب هذه الدراسة، تمّ في حزيران 2022 توقيع اتفاق تعاون عام بين مرفأ بيروت (PoB) والمرفأ الكبير لمارسيليا-فوس (GPMM) يركّز على الدعم الفني والتخطيط الاستراتيجي، خصوصًا في منطقة الشحن العام.
الجدول ٢: المساحات المخصّصة للمناطق – المقترح الفرنسي
الجدول ٢: المساحات المخصّصة للمناطق – المقترح الفرنسي
الخريطة ٤: مخطّط إعادة الإعمار والتطوير لمرفأ بيروت (المقترح الفرنسي) المصدر: خريطة من إعداد مختبر المدن بيروت
الخريطة ٤: مخطّط إعادة الإعمار والتطوير لمرفأ بيروت (المقترح الفرنسي) المصدر: خريطة من إعداد مختبر المدن بيروت

قراءة مقارنة

على الرغم من تقديم المقترحين للجمهور على أنهما متكاملان، فإن مقترح البنك الدولي (WBP) والمقترح الفرنسي (FP) يرسمان مستقبلًا مختلفًا جذريًا للمدينة ومرفئها ولعلاقتهما، ولا سيّما في ما يتّصل بالقدرة على توليد التنمية الاجتماعية والاقتصادية الى ما تجاوز أنشطة الشحن. بالفعل، يتباين المقترحان بشكل ملحوظ في تصوّرهما لأدوارالمرفأ الوطنية والإقليمية، وفي علاقة المرفأ بالمدينة التي يطرحانها، وفي نطاق التنمية المستقبلية وحجمها، والتكاليف المتوقّعة، والبنى التحتية والتخصيصات المكانية اللازمة لتلبية توقّعات الحركة حتى عام 2040. وعليه، ينبغي للقارئ أن ينتبه إلى أنّه، رغم تعذّر المقارنة بين نطاق الدراستين، إلا أنّ توصياتهما غير متوافقة . يوجز الجدول أدناه أبرز الفروقات بين المشروعين، على أن نُفصّل بعض النقاط الحاسمة في النص والجداول اللاحقة.

وبناءً على ما تقدم، تختلف الدراستان اختلافًا كبيرًا في نطاقهما. فمن منطلق السعي لتموضع تدخّله ضمن استراتيجية وطنية للمرافئ وإطار قانون مرافئ جديد، يحاول مقترح البنك الدولي محاكاة نموذج مدن المتوسط التي استفادت من التطوّر التكنولوجي وتراجع الأنشطة الصناعية لإدخال وظائف جديدة ذات آثار خارجية إيجابية على المستويين الحضري والإقليمي. وقد اقترح إدماج وظائف ترفيهية وتجارية وتكنولوجية تساعد على استعادة هوية بيروت التاريخية كـ«مدينة-مرفأ». من هذه الزاوية، يقدّم رؤية طويلة الأمد وطموحة وتنموية للمدينة ومرفئها. أمّا المقترح الفرنسي فمؤطّر كتدخّل مرحلي طارئ لتلبية احتياجات فورية؛ غير أنّ مكوّناته تلتزم فعليًا بإبقاء الشرخ بين المدينة والمرفأ لعقود مقبلة.


- كيف تترجم الرؤى مكانيًا إلى مخططات توجيهية؟
يفضي اختلاف النهج والنطاق إلى مقترحين مكانيين متباينين جذريًا، ما يفتح آفاقًا مختلفة لعلاقة المدينة بالمرفأ، وبالتالي لمسار تنمية المدينة. وتزداد أهمية هذه الفروقات لأنّ كلتا الدراستين، فضلًا عن تدقيقات استعمال المساحات السابقة، وجدت أنّ مساحة المرفأ تفوق الحاجة. لذا، يكمن الفارق الحاسم في ما إذا كانت عملية التعافي ستقود بيروت ومرفأها نحو نموذج جديد للتكامل والازدهار الاقتصادي، أم ستفترض عودة إلى الوضع السابق.

فيما يلي مقارنة تفصيلية، نقطةً بنقطة، لبعض عناصر المخططات الرئيسية المقترحة في المشروعين:

 

- استخدام الأراضي الفائضة
يعترف المقترحان بوجود أراضٍ غير مستغلّة في المرفأ (حوالي 30 هكتارًا في مقترح البنك الدولي و9 هكتارات في  المقترح الفرنسي)، لكنّ مقاربتهما تختلف: يرى مقترح البنك الدولي هذه المساحات فرصة للاندماج عبر إدخال استخدامات جديدة مثل منتزه تذكاري ومساحات ترفيهية ومنطقة حرّة للوجستيات ذات القيمة المضافة ومركز أعمال وابتكار. في المقابل، يُبقي المقترح الفرنسي هذه المساحات ضمن حدود المرفأ كـ«مساحات غير مستخدمة حاليًا» من دون تخصيصات وظيفية جديدة أو إتاحة وصول عام (انظر الجدول 5).

- توقّعات الشحن وتخصيصاته
يعرض المقترحان توقّعات طويلة الأمد متقاربة عمومًا مع ما ورد في مخطط مرفأ بيروت 2037 (خطّة عام 2018) وتشمل الحاويات والصلب والسيارات والحبوب وركّاب الرحلات البحرية. يشرح مقترح البنك الدولي منهجية توقّع مفصّلة طوّرها الشركاء الهولنديون باستخدام نماذج معقّدة واتجاهات الاقتصاد المحلي؛ بينما يستند المقترح الفرنسي إلى تقديرات مخطط 2018، خصوصًا السيناريوهات «الأكثر تفاؤلًا» (أعلى أحجام). رغم اختلاف المنهجيات، تبقى تقديرات أحجام الشحن متقاربة تقريبًا.

- محطة الحبوب، محطة الرحلات البحرية، ووظائف أخرى
رغم تشابه أحجام الشحن المتوقّعة، تختلف توزيعات المساحات بشكل ملحوظ. نقدّم هنا بعض الأمثلة، ويمكن للقرّاء الاطلاع على الجداول أدناه لمزيد من التفاصيل.
يتضمّن كلا المقترحين مساحات كبيرة لاستيراد السيارات: يقدّر مقترح البنك الدولي بنحو120,000 سيارة/سنة، بينما يقدّر المقترح الفرنسي 140,000 سيارة/سنة — وهذه أرقام منسجمة مع توقّعات Moffatt & Nichol (مخطط 2018 للمرفأ 2037) لعام 2022، وتفترض استمرار الاعتماد على السيارة الخاصة. (تجدر الإشارة إلى أنّ السيارات المستعملة عادةً ما يتمّ نقلها عبر مرفأ صور؛ وعليه تعكس هذه الأرقام السيارات الجديدة التي تراجعت أحجام استيرادها بشكلٍ كبير منذ الانهيار المالي عام 2020). 

يُقلّص المقترح الفرنسي حجم محطة الحبوب بشكل كبير — مرجّحًا بسبب قيود إعادة البناء على رصيف غير مناسب — فيما يخصّص 4.25  هكتارات للشحن العام، أي2.5  ضعف ما ورد في مقترح البنك الدولي.

فارق آخر بارز يتعلق بمحطة الرحلات البحرية: يُبقيها المقترح الفرنسي في موقعها الأصلي ويوسّعها إلى منطقة مختلطة مع الشحن لتشغل كاسر أمواج (mole)ونصف كاملين؛ بينما يحصرها مقترح البنك الدولي على رصيف واحد، رغم توقّعه عددًا أكبر بكثير من الزوّار. 

كما يُدخل مقترح البنك الدولي وظائف مرفئية جديدة مثل مركز ابتكار، وهي وظائف غير مدرجة في الدراسة الفرنسية التي تُبقي مساحة «غير مستخدمة حاليًا» لتطوير طويل الأمد. ويفترض المقترحان أنّ الحوض الأول، الخاضع راهنًا لسيطرة الجيش والمملوك من سوليدير، سيُعاد تخصيصه واجهة بحرية عامة مستقبلًا.

الجدول ٣: مقارنة تفصيلية نقطة بنقطة بين مقترح البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٣: مقارنة تفصيلية نقطة بنقطة بين مقترح البنك الدولي والمقترح الفرنسي
- الإهراءات والذكرى
تختلف المعالجة جذريًا: يستجيب مقترح البنك الدولي للمطالب العامة بإحياء ذكرى الضحايا عبر تخصيص "منطقة مكرّسة" (sanctuarized area)  كفضاء عام مفتوح يحفظ موقع الانفجار. أمّا المقترح الفرنسي فيلتزم بإصرار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على إعادة بناء الاهراءات في mole 2 رغم ما تظهره الدراسات من كلفة أعلى وفعالية أقل؛ ولتحقيق ذلك يقترح إنشاء رصيف جديد في الحوض 3 مع أعمال بحرية لازمة.

واللافت أنّ المقترح الفرنسي لا يقدّم هذا الخيار بوصفه تقنيًا صرفًا، بل يُشير إلى أنّ «غالبية ممثلي المرفأ يفضّلون الإبقاء على موقع إهراءات الحبوب في mole 2». ورغم تخصيص "منطقة احترام" في موقع الانفجار، فإنها محاطة بمحطات الحبوب والـRo-Ro والشحن، ما يجعل الوصول العام إليها شبه مستحيل.
الجدول ٤: مقارنة المساحات بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٤: مقارنة المساحات بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٥: توزيع الوظائف على الأرصفة والأحواض – مقارنة بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٥: توزيع الوظائف على الأرصفة والأحواض – مقارنة بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٦: مقارنة مكانية بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٦: مقارنة مكانية بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٧: مقارنة مكانية بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٧: مقارنة مكانية بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
- الآثار الاقتصادية على المدينة
يُجمع المقترحان على الدور الاقتصادي الاستراتيجي للمرفأ وعلى الحاجة إلى تحسين الحوكمة لرفع الإنتاجية. ويشير كل منهما إلى أنشطة ذات قيمة مضافة وتوليد دخل، لكن من دون بيان كيفية انتفاع مدينة بيروت مباشرةً من هذه الإيرادات أو كيف يمكن لاستراتيجيات إعادة التوزيع أن تُفضي إلى مكاسب ملموسة للاقتصاد المحلي. مع ذلك، يفتح مقترح البنك الدولي آفاقًا واضحة عبر اندماج المرفأ والمدينة على الواجهة الغربية للموقع بوصفه محفّزًا للانتعاش الاقتصادي من خلال توليد مصادر إيراد جديدة من دون الإضرار بالنواة الصناعية للمرفأ. في المقابل، لا يتوقّع المقترح الفرنسي إيرادات تُذكر تتجاوز وظائف المرفأ التشغيلية. ومع ذلك، تُشير الدراسة إلى أنّ صافي دخل الاستثمار سيُحوَّل إلى مالية الحكومة اللبنانية، بما يوحي بأنّ الإدارة الرشيدة قد تحسّن الخدمات العامة والبنى التحتية. غير أنّ تعاملها مع المدينة بوصفها «فناءً خلفيًا» للمرفأ يبقى مقلقًا لجهة آثار المرفأ على بيروت.

- كلفة المشروع
نظرًا لاختلاف نطاق الدراستين، يتعذّر مقارنة التكاليف مباشرة. لكن من المهم فهم مواضع تخصيص الكلفة وكيفياتها. إذ يفرض المقترح الفرنسي ، التزامًا بمطلب إعادة الإهراءات إلى mole 2، كلفة تقارب 67 مليون دولار أمريكي لتطوير رصيف جديد وأعمال بحرية لاحقة — وهي كلفة يتجنّبها مقترح البنك الدولي عبر نقل الاهراءات إلى mole 3. إضافةً إلى ذلك، تتضمن حزمة التدخّلات اللوجستية الأوسع في المقترح الفرنسي — مثل تحويلات طرق وباب جديد لمحطة الحاويات ومشاريع غير أولوية كـمظلّة كهروضوئية (PV canopy) — وهي عناصر غير واردة في مقترح البنك الدولي.
الجدول ٨: مقارنة تكاليف المشروع بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
الجدول ٨: مقارنة تكاليف المشروع بين مقترحي البنك الدولي والمقترح الفرنسي
لمن يرغب في التوسّع، يمكن مراجعة تسجيلات العروض العلنية للمشروعين التي عُقدت في الجامعة الأميركية في بيروت في حزيران 2024 عبر الرابط المشار إليه. كما ينشر مختبر المدن بيروت ملاحظات النقاش التي قدّمها نقيب المهندسين والمعماريين السابق جاد تابت، والتي عرض فيها الموقف الرئيسي للمختبر من عملية إعادة الإعمار.

موقف مختبر المدن بيروت

بعد مشاركة المختبر في ورش عمل مغلقة ومفتوحة، وعقب قراءة متأنّية للمقترحين، يخلص مختبر المدن بيروت في هذه المذكرة الموجزة إلى أربع نقاط حظيت بتوافق الخبراء المحليين وأصحاب المصلحة في المدينة .تنطلق توصياتنا من قاعدة أخلاقية: فعلى الرغم من التحدّيات التقنية العديدة التي تواجه تعافي مرفأ بيروت، ينبغي أن تهتدي الحلول بمنظومة قيم. علينا التأكّد من أن قيم الشمول، وإعادة التوزيع، والإنتاجية، والجدوى البيئية، والتماسك الاجتماعي، وكرامة الإنسان، تقف في صلب المشروع: في عملية تطويره، والأطر التنظيمية والمؤسسية التي يعتمدها، والأدوات التي يُفعّلها، والرؤى التي يرسمها، وأنماط التنفيذ والإدارة المستقبلية التي يقترحها.

- المرفأ كمحرّك للتنمية على مستوى المدينة والوطن
ستتطلّب إعادة تأهيل مرفأ بيروت استثمارات كبيرة. وينبغي أن تُعطي كل منها المنفعة العامة للمدينة والوطن والمواطنين الأولوية القصوى. وعليه، فإنّ ترسيخ المقترح الخاص بالبنك الدولي لاستراتيجية وطنية للمرافئ ضمن نموذج اقتصادي واضح يقدّم إعادة التوزيع والشمول ويستثمر فرصًا جديدة تخدم الصالح العام الأوسع، يُعدّ نقطة إيجابية أساسية جديرة بالتبنّي. ينبغي أن تبتعد التنمية عن النهج الريعي الذي ساد في الماضي، وأن تتركّز بدلًا من ذلك على توليد وظائف لائقة وسبل عيش كريمة على المستويين الوطني والمديني. إذ لا يجوز قياس النجاح فقط بحجم حركة الحاويات أو أرباح قلّة من الأشخاص، بل  يجب أن تخدم إعادة تطوير المرفأ المصلحة العامة الأشمل، بما يعود بالنفع على جميع اللبنانيين بدلًا من إثراء قلّة وإثقال كاهل الأجيال القادمة بالديون.

- تكامل المرفأ والمدينة
الأولوية الرئيسية تتمثّل في الدمج المكاني والاقتصادي والمؤسساتي بين المرفأ والمدينة، بما يعيد لبيروت هويتها التاريخية كـ«مدينة-مرفأ»، ويضمن أن يكون التطوير الطويل الأمد للمرفأ موجّهًا لخدمة التنمية الوطنية بدلًا من الأرباح الضيّقة  للسلطة المرفئية. ويتمّ ذلك عبر استعادة العلاقة التاريخية بين الأحياء المحيطة بالمرفأ والبحر، مع تحسين تشغيل المرفأ بوصفه أولوية للتعافي الاقتصادي الوطني. وكما أُشير أعلاه، فإنّ أيًا من المقترحين لا يتبنّى بالكامل مطلب التكامل بين المرفأ والمدينة. صحيح أن مقترح البنك الدولي يؤكّد مبادئ التكامل، لكنه يحصر نطاقه ضمن حدود المرفأ الرسمية، ما يعزّز من غير قصد الفصل الضارّ بين المرفأ والمدينة ويخاطر بتكريس التجزئة المكانية والضرر البيئي وفوات فرص التنمية المتكاملة. في المقابل، يثبّت المقترح الفرنسي هذه القطيعة بذريعة حلّ طارئ قصير الأمد. وعليه، تتمثل التوصية في توسيع المخطّط التوجيهي الوارد في دراسة البنك الدولي ليشمل المناطق المحيطة ومراجعة توصياته وانعكاساتها على علاقة المرفأ بالمدينة.

في اطار التخطيط المدني، نحتاج إلى تدخّل متعدد المستويات واستراتيجية شاملة  تبدأ من البحر وتمرّ عبر المرفأ والمدينة وصولًا إلى الداخل، بما يتيح تنسيقًا عبر مقاييس مختلفة، ويربط الديناميكيات الجيوسياسية بالحياة المُدنية، ويضمن تنمية شاملة ومستدامة تستجيب للصالح العام. وظيفيًا، يتطلّب تكامل وظائف المرفأ تنويع نشاطاته، وهو ما ظهر في مقترح البنك الدولي عبر توصية بإدخال التقنيات الذكية، والربط بين أنماط النقل، وخدمات ذات قيمة مضافة، وأنشطة مدرّة للدخل مرتبطة بـالسياحة والترفيه.

مكانيًا، ينبغي ربط المرفأ بمحيطه، مع دراسة دقيقة لآليات فكّ عزلة المرفأ وإعادة توظيف المساحات الواسعة والحوض المخصّصين للشركة الخاصة «سوليدير» والمشغولين من قبل الجيش، فضلًا عن معالجة الانقطاع البنيوي الذي تسبّبه الأوتوستراد ومحطة شارل الحلو. كما يجب الانتباه إلى الأحياء المتضرّرة من الوظائف الصناعية للمرفأ، ولا سيّما منطقة الكرنتينا التي تكبّدت وطأة الآثار السلبية للوظائف الصناعية لعقود، وهي تؤوي في الوقت نفسه فئات سكانية هشّة خدمت المرفأ طويلًا.

مؤسسيًا، ينبغي أن ينعكس ترابط المرفأ والمدينة في حوكمة المرفأ نفسها، كما يطرح — ولو بخجل — الإطار القانوني المقترح الذي يدعو إلى تمثيل سلطات المدينة في هيئة حوكمة المرفأ. وقد أثبت هذا النموذج نجاحه في برشلونة وجنوى وروتردام ومرسيليا وغيرها من نماذج المدن-المرافئ.

في المقابل، عبّر أصحاب الشأن عن تحفّظ إزاء خصخصة الأراضي المقام عليها المرفأ — كما اقترحت دراسة سابقة — بما في ذلك المناطق المرشّحة للربط بالمدينة؛ ما يستدعي الابتعاد عن النماذج التي اعتُمِدت في وسط بيروت وبعض المرافئ الخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية. وقد تكرّر الاقتداء بنموذج مرفأ جنوى بوصفه قصة نجاح؛ في ضمان الملكية العامة الكاملة للأراضي، ومنح 51% من شركة المرفأ لسلطات المدينة التي تتلقى إيجارات متدرجة بحسب الأرباح، بما يشجّع جهة التطوير على إعادة استثمار أرباحها بالكامل في المشروع ضمن برنامج يعزّز المدينة ولا ينافسها.


- مقاربة طويلة الأمد وشفافة للتخطيط
لا ينبغي أن يقع تخطيط مستقبل المرفأ تحت خانة الاستجابة الطارئة، بل عليه أن يتبنّى مقاربة طويلة الأمد. فلا يجوز توظيف ظروف الطوارئ لتبرير إعادة إعمار تتغاضى عن إخفاقات التخطيط الهيكلية التي أسهمت في الأزمة. منذ نهاية الحرب الأهلية، باتت الاستثناءات هي القاعدة بحجة الحاجة إلى تدابير عاجلة ومؤقتة، مع تأجيل التخطيط الشمولي إلى ما لا نهاية. يجب أن يقترن الإعمار بجهود لمعالجة إخفاقات الحوكمة المتجذّرة، والعمران غير المنضبط، وتغليب مصالح النخب على المصلحة العامة. ويشمل ذلك إعطاء أولوية للنقل العام وتقييم آثار المرفأ على الأحياء المحيطة، والواجهة البحرية، والمناطق الوطنية الداخلية.


إنّ ضمان التخطيط السليم يستلزم رقابة مهنية صلبة لمواجهة ضغوط المصالح الخاصة الضيّقة. وعلى الرغم من ضعف التخطيط العام في لبنان لعقودٍ من الزمن، فقد أبدت قلّة من المواطنين والخبراء رغبة حقيقية في تحمّل المسؤولية والقيام بدور فاعل في التعافي. كما أظهر محترفون محليون ودوليون دعمًا ملتزمًا للبنان واستعدادًا للقيام بدور استشاري منتظم. إنّ إشراك هؤلاء الفاعلين بصفة استشارية يوفّر رقابة وصوتًا وقدرة على فرض الشفافية وإنتاج المعرفة ورفع الوعي فيما يخصّ التحدّيات الراهنة.


- التخطيط مع الذاكرة والمساءلة
لا يمكن تحقيق تعافٍ حقيقي من دون المساءلة والشفافية والتخطيط الرشيد والالتزام بإحياء الذكرى لضمان عدم تكرار المأساة. ثمّة مطالبة صاخبة من المجتمع المدني، بكل مكوّناته، بإنشاء نصب تذكاري تكريمًا لمن فقدوا أرواحهم، يوفّر فضاءً للتأمّل والشفاء، ويذكّر على الدوام بتضامن مجتمعنا — على غرار هيروشيما، ونصب 11 أيلول في نيويورك، و**«مِموريال دو كان»** في نورماندي، وكثير غيرها حول العالم.