الخريطة الأمنية في بيروت: عقدٌ من الأبحاث
يعتبر الأمن العسكري أهم الجوانب التي تميّز مساحات بيروت العامة والمشتركة، لا لتأثيره على الحياة اليومية في المدينة فحسب بل لإعادة تنظيمه لجماهيرها وفرضه قيوداً شتى على فئة من سكانها والمستفيدين منها دون أخرى. فإذا ما ألقينا نظرة فاحصة على الأمن العسكري في بيروت لوجدنا أنه يبدو في ظاهره كطبقة متجانسة ولكنه في الواقع ليس سوى مجموعة من الوحدات المجزأة بشكل كبير تديرها أنظمة متداخلة لامركزية تعمل على طمس الحدود بين النطاقين العام والخاص. وقد قدمنا في مختبر المدن في بيروت على مرّ الأعوام عدة مشاريع تتناول موضوع نشر قوات الأمن ومدى تأثيره على إعادة تنظيم الجغرافيا الحضرية في المدينة وانعكاساتها على حياة سكان المدينة والمستفيدين منها على اختلاف فئاتهم وممارساتهم اليومية.
2009: الخريطة الأمنية وآلياتها في بيروت
باتت الحواجز المؤقتة، ولافتات "ممنوع الوقوف"، وكاميرات المراقبة، ومخفضات السرعة، والأكياس الرملية، والاليات العسكرية، والأسلاك الشائكة ظاهرة بوضوح في المدينة، بحيث يلزم على كل من يقطنها اجتيازها يومياً. وينتج عن إنتشار هذه الأجهزة طرق مسدودة ومسارات منحرفة ومناطق يمنع فيها ركن السيارات أو التصوير بالكاميرات ومداخل خاصة مجهزة بمعدات تفتيش ومزوّدة بعناصر حماية أمنية. أما من جهة أخرى، فتتسبب تلك المظاهر الأمنية، التي باتت عادية في حياة سكان المدينة، بحوادث استفزاز وتحرّش وتؤدي إلى إهدار الوقت على الطرقات بسبب صعوبة الوصول إلى بعض الأماكن. وقد بدأت تلك الآليات الأمنية، التي غالباً ما كانت توصف "بالمؤقتة"، تغزو شوارع بيروت مجدداً في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية حتى باتت اليوم جزءاً من المشهد الجغرافي للمدينة مرسّخة شعور القلق في المدينة ونفوس قاطنيها ومعرقلةً لممارساتهم اليومية.
خريطة نشرت عدة مرات بين عامي 2010 و2015 تبيّن الآليات الأمنية الظاهرة في بيروت البلدية
يسعى هذا المشروع البحثي الذي يعدة كل من منى فواز وأحمد غربية ومنى حرب ونادين بكداش، من خلال وضع خرائط تبين الوجود المطلق للعناصر الأمنية في المدينة، إلى طرح أسئلة جريئة عن إعادة تنظيم الأماكن العامة في المدينة من خلال تطبيع الأمن العسكري. نتناول في بحثنا هذا مسألة الأمن من منظور إعادة تنظيمها للحياة العامة نفسها، إذ تتعدى كونها مجرّد مسألة حماية لتبُرز وجود عدة جماهير لهم حقوق متباينة يعاد تركيبها وفقاً للهرمية الاجتماعية التي تتألف من الطبقة الاجتماعية والجنسانية والمذهب والانتماء الوطني والميول الجنسية.وقد بيّنا من خلال فك شيفرة الانتشار الأمني أن الحماية هي حجة تتعذر بها بعض الشخصيات التابعة لرموز سياسية تعرف عن نفسها بأنها "جماهير مهددة" للحصول على الحماية، بينما يعاد صياغة مفهوم الأكثرية الحضرية على أنها مصدر تهديد لها. كما يوثق البحث التحوّل في حدود المقبول وغير المقبول عند الموازنة ما بين خرق الحريات المدنية الفردية من جهة ومستويات الخطر المقبولة من جهة أخرى. وقد أظهر هذا التحول طمس الحدود بين ما يعتبر خاصاً وما يعتبر عاماً. أخيراً، أظهر البحث أن تداعيات هذا الانتشار الأمني على سكان المدينة تتباين وفقاً لمكانتهم في التسلسلية الهرمية الاجتماعية والجنسانية والأخلاقية والوطنية والطبقية. وقد سلّط الضوء على الوسائل التي يفاوض بها المستخدمون على هذه التسلسلات الهرمية من خلال قراءتهم للانتشار الأمني أو استعانتهم بسلطة المال لتسهيل شؤونهم بالالتفاف حول المسألة. نشر هذا المشروع وغيره ضمن مطبوعة "بيروت وسكانها: الخريطة الأمنية" التي يمكنكم تحميلها باللغة العربية. وستجدون نسخة عنها باللغة الإنكليزية.
تظهر هذه الخرائط المسارات التي يتبعها العديد من الأفراد في بيروت. وتظهر روايات ثلاثة عمال أجانب (من بنغلادش ونيجيريا وفلسطين) وروايتي عامل سوري وعامل لبناني من الطبقة الوسطى مدى تقاطع الطبقية والمذهبية والجنسية في تجارب المدينة وأمنها.
2018: اللاجئون وتجربتهم مع الأمن العسكري في بيروت
في تحرّينا عن الدور الذي يلعبه اللاجئون كصناع المدينة، برز موضوع الأمن العسكري كمشكلة أساسية تواجه هؤلاء يومياً وتؤثر على تنقلاتهم ضمن المدينة وظهورهم للعيان. ولا شك أن صعود اللاجئين على سلم الكفاءة في تنقلهم في المدينة يعتمد بشكل كبير على مواجهتهم وتفاديهم على حد السواء للاستفزاز الذين يتعرضون إليه على يد الشرطة أو "قبضايات الحيّ" الذين يسعون إلى فرض نفوذهم في مناطق محدّدة. وقد كانت تلك المعرفة ضرورية في ظل تجريم الإطار التنظيمي اللبناني لوجود اللاجئين السوريين وعملهم في البلاد، ما زاد من ضعف هذه المجموعات وهشاشتها أمام الأجهزة الأمنية.وقد علمنا من خلال الخرائط التي تصوّر عمل الشباب السوريين في مهنة التوصيل وإطلاقهم لمشاريع عمل في بيروت واستقرارهم فيها كوطنٍ بديل، مدى تحكم الأمن العسكري في تنقلات هؤلاء وحتى اختيارهم لأماكن سكنهم. فالأمن هو من يتحكم بالمسارات والأمن يوقع المكائد في "المناطق الساخنة"، أي تلك لا تمت إلى مهامه بِصِلة، ويحددّ "أحقيّة الدخول" إلى المناطق التي يتكثف فيها الانتشار الأمني ليلاً. إن ممارسة الأمن هي مهارة مكتسبة. لذا أجرينا مقابلات مع سائقي دراجات التوصيل أخبرونا من خلالها بأن "تفادي" الاستفزازت يُعدّ من المهارات المكتسبة في مهنتهم، وهي معرفة ضرورية للمضي بأمان في شوارع المدينة وطرقاتها على الأقلّ. وتشمل المهارة توقّع مكان نقطة التفتيش وتجنبّها وإتقان المناورات التكتيكية لتجنب المخالفات وغيرها من وسائل الالتفاف حول الحواجز. وإلى جانب اكتساب هذه المهارة، تتطلب مهمة التوصيل بناء قاعدة للمعلومات عن العقبات الجديدة أو المؤقتة – وبالأخص نقاط التفتيش–التي يمكن لسائقي االتوصيل مشاركتها عبر منصات التواصل الاجتماعي وعبر شبكة الاتصالات الخليوية. يمكننا اعتبار شبكات تبادل المعلومات تلك صلة وصل بين اللاجئين سائقي الدراجات وبين اللاجئين الذين يعملون في المهنة نفسها بالإضافة إلى مجموعة أكبر من سائقي الدراجات النارية الذين يدعمون ويحذرون بعضهم البعض من نقاط التفتيش وغيرها من مخاطر الطريق، دون الالتفات إلى جنسيات بعضهم البعض أو ديانتهم.
نقاط التفتيش المسجلة على مدى أسبوعين عام 2019 (أجرت البحث كل من منى فواز ودنيا سلامة. رسم الخرائط: أحمد الغربية وناريغ كريكوريان ورومي مطر)
2019: إعادة النظر في المنظومة الأمنية في وسط بيروت
في صيف 2019 راجعنا مسحاً أجريناه عام 2009 عن آليات المنظومة الأمنية في وسط بيروت. فبعد اندلاع احتجاجات 2015 ضد أزمة النفايات، أضافت الدولة اللبنانية كردة فعل آنذاك المزيد من الحواجز والجدران الاسمنتية والحديدية وحدّت من حريّة التنقل في وسط العاصمة وسبل الوصول إليها. وعلى الرغم من تلاشي الحركة الاحتجاجية آنذاك لم تُزل تلك القيود أبداً. ويظهر المسح الذي أجريناه تحت إشراف وتصميم توم أبي سمرة ترابط آليات الأمن الخاصة والعامة في وسط بيروت، إذ كانت تحمي الممتلكات الخاصة الفاخرة (كالمحلات التجارية أو الشقق السكنية) والمؤسسات الحكومية في آنٍ واحد.