كيف يُعاد تأطير المسائل المتعلقة بالتغيير الحضري في ظل الأزمات المتعددة؟ هل يمكن القول بأن دراسة المدن بشكلها الحالي والمعهود لم تعد ملائمة؟ وهل يعدّ مشروع تأسيس مختبر حضري فاقداً لجدواه اليوم؟
نطلق موقع مختبر المدن في بيروت في فترة عصيبة من تاريخ البلاد. فعلى الرغم من مرور ثلاثين عاماً على ما يسمى نهاية الحرب الأهلية، إلا أن لبنان اليوم ما زال يرزح تحت أثقال أزماته المتداخلة، من جائحة صحية خطيرة وأزمة مالية حادة إلى فشلٍ ذريع في وضع عملية عادلة وعملية للتعافي الوطني. ومما لا شك فيه أن كل المؤشرات تدل على انهيار وشيك للبلاد. حتى الحياة الحضرية، التي تُعدّ مسرح أنشطتنا وفحوى بحوثنا، تبدو غير مستقرة. فمن المؤكد أن صور الشوارع الفارغة ومدن الأشباح المنذرة بنهاية العالم الذي نعرفه ستشكّل الذكريات الجماعية لأجيال قادمة. ومع ذلك، يتخلّل هذه المشهديات فورات احتجاجية يؤكد فيها الناس في بيروت وسواها على مطالبهم بعيشٍ كريم وعادل يتساوى فيه الجميع تحت سقف القانون.
الكورنيش هو من الأماكن العامة الأكثر ازدحامًا في بيروت، ويظهر اليوم خالياً تمامًا من المارة والمشاة خلال فترة الإقفال العام (الصورة: دنيا سلامة ، نيسان 2020)
إغلاق المحلات والمطاعم في شارع الحمرا (الصورة: منى حرب ، نيسان 2020)
في خضمّ هذه الأزمات المتداخلة، نسعى إلى مراجعة أجندتنا الخاصة وجدوى إطلاق مختبرنا في هذه الفترة الحرجة. ونجد في هذا الاهتمام المتجدد بالمناطق الحضرية فرصة ثمينة للتفاعل مع الجماهير التي لم تكن تتمتع يوماً بهذه الجهوزية أو الاهتمام للانخراط في محادثات كهذه. وبما أننا توصلنا بفضل هذا الوباء إلى قناعة، وإن كانت عابرة ومتفاوتة، بأن قوة المجتمعات مستمدة من قوة حلقاتها الأضعف، سنسعى إلى اغتنام الفرصة والمساهمة في تسليط الضوء على الأحياء الفقيرة والمخيمات والمباني المتداعية التي تأوي العمال الذين يخدمون مدننا وبلداتنا، وإدراجها في أجندات السياسات العامة. ولا يمكن اختزال النقاش الحضري في مرثيةٍ ننعي فيها الفراغ الذي اجتاح وسط المدينة الحضري وأحال ماضيها الساحر إلى أسواق فارغة يعتريها السكون بعد أن كانت تضجّ بالحياة ذات يوم. فخرائطنا وتحليلاتنا للمخيمات والأحياء العشوائية، وإدراكنا للويلات التي تجرّها الأمْوَلة و/أو الحروب على البلاد، إضافة إلى دراساتنا للتخطيط الدامج ومناهج التعافي المتكاملة باتت ذات أهمية الآن أكثر من أي وقتٍ مضى. كما سمحت لنا الجائحة بمراقبة الواقع المحلي ومدى استجابته للأسباب العالمية. إذ لفتت المساءلة الحالية للرأسمالية العنصرية الأنظار إلى أزمة العمالة المهاجرة ونظام الكفالة المهمل منذ زمن في بلدنا. فمن السهل التغنّي بأهمية هذه الفئة من العمّال ذوي المهارات البسيطة واعتبارهم عمالًا أساسيين في مجتمعاتنا فيما تصمّ الآذان عن سماع شكواهم المتزايدة وتعجز الأيادي عن تغيير ظروف عملهم غير المقبولة. علينا أيضًا ألا ننسى أن العديد من هؤلاء المهاجرين، ومعظمهم من النساء، متضررون من الانهيار المالي بصورة غير متناسبة.
متظاهرات ومتظاهرون يطالبون بإلغاء نظام الكفالة في اعتصام يوم عاملات المنازل عام 2018. ومن اللافتات المرفوعة: "بيروت عاصمة التمييز العنصري" (الصورة: بات ساي، حزيران 2018، من صفحة حركة مناهضة العنصرية على الفيسبوك)
في هذا السياق، نرى بأن مشروع تأسيس مختبر حضري يمثّل فرصة لدفع منظومة تغيير تعمل ضمن إطار شبكة النقاشات الأكاديمية ومجلات السياسة العامة، بحيث تتقاطع مع معايير تدخلاتنا في المدن والمواقع التي نجري دراساتنا فيها.من أبرز دوافعنا لتأسيس مختبر المدن في بيروت تحفيز المحادثات والحوارات في منطقة الجنوب العالمي لكسر مركزية الإنتاج المعرفي، إدراكاً منّا للإرث المشترك والجراح التي خلّفها الماضي والحاضر الاستعماري بكل تشوهاته وتبعياته والتي شكّلت نقاط التقاء واضحة لسياقاتنا الجنوبية. لذلك نسعى إلى إطلاق المناقشات وتشجيع المقارنات الفعّالة التي تعمل جنباً إلى جنب من أجل صياغة خطابات متسّقة تتمحور حول واقعنا الحضري المتغيّر وما يثيره من أسئلة. بيد أننا نعترض على الافتراض السائد بأن كل منطقة من المناطق هي مجرّد نسخة مختلفة عن القاعدة المفترضة مسبقًا (غالبًا ما يرتبط ذلك بالمدن الكبرى في بلاد الغرب)، ونسعى بدلاً من ذلك إلى الكشف عن التشابك المعقد للقوى التي تتحكم بمدننا على اختلاف مستوياتها. وهكذا نستكشف، من موقعنا في بيروت، كيفية تجسّد الأمْوَلة على الإسكان، وتداعيات الأنماط والممارسات العالمية المرتبطة رأس المال المتصاعد حيث نتابع انعكاسات الأمْولة من خلال مسوحاتنا التي تظهر المعدلات العالية للشغور والممارسات التأديبية التي تضرّ بمصالح الطبقة الوسطى وأوجه اللامساواة الحضرية الصارخة، دون أن نغفل عن تقاطع هذه الأنماط مع البنى الاجتماعية والسياسية التي تميّز تنظيم تلك المدن الخاضعة لدراستنا. كما نجري حالياً دراسة إستراتيجية لبنان الوطنية للاستجابة لوباء كوفيد-19، بما يمكننا من مقاربة مفهوم الدولة من الأسفل كوطنٍ يتوق إليه البعض، أو كمجموعة من الممتلكات المرغوبة بالنسبة لآخرين، أو كسلطة مجزأة مطعون في شرعيتها من الداخل والخارج. لذا فنحن نسعى إلى قراءة أنظمة الحوكمة الهجينة، والتي تتسم إلى حدّ بعيد بالعشوائية، وتحديد أو توثيق التجارب غير المتوافق عليها، والعابرة في معظم الأحيان، التي قد ترتسم في المخيلة عن الأوضاع السياسية البديلة، عوضاً عن تعداد أوجه القصور في نموذج الحكومة اللبنانية أو وصمها بالدولة "الفاشلة". وبالتالي، نحن على وعي تام بالارتباط الوثيق بين التحولات المناطقية وبين القوى والتيارات ذات المستويات المتعدّدة والتي غالبًا ما تتفوق على صنع السياسات من داخل المؤسسات العامة. من هنا، ندعم في المختبر تبني المناهج وأدوات التخطيط التي تقرّ بالأبعاد الاجتماعية والإيكولوجية للبيئات العمرانية والطبيعية الدائمة التغير. أما بالنسبة لعملنا على مستوى إعادة الإعمار بعد الحرب في لبنان، فقد أطلقنا تصوّراً جديداً لهذه العملية ضمن إطار التعافي الشامل الذي يتطرق إلى جميع صُوَر الضعف والظلم الحضرية، متحدياً بذلك استثنائية المنطقة أو خصوصيتها. وعليه، فنحن ننظر إلى التعافي الحضري على أنه عملية ناجمة عن عدة أنواع مختلفة من التصدعات وأعمال العنف التاريخية والمعاصرة تتأثر بالنزوح والسياسة وعلاقات القوى. عملياً، يمكن ترجمة التعريف السابق إلى وضع إطار تشاركي دامج وعادل اجتماعيًا قائم على مشاريع دائمة التمحور حول الإنسان والتراث والمكان.
عناصر من الأحزاب السياسية يعقمون الشوارع ويوزعون المساعدات والأقنعة والمنتجات الصحية في صور نشروها على صفحات الفيسبوك الخاصة بهم. يرتدي العناصر شعارات وألوان الأحزاب التي يمثلونها.
ينطلق مشروعنا لإنتاج المعرفة من موقعنا الراسخ ضمن السياقات الحضرية المحددة التي نعيش ونعمل ونتفاعل فيها. يدفعنا ذلك إلى تناول أي مبادرة بحثية بشكل تلقائي واتخاذها كفرصة للتعلم والتباحث. وهذا ما يلهمنا لافساح المجال أمام الطلاب لكي يصبحوا باحثين متعاونين، وأمام المجيبين على استقصاءاتنا لكي يصبحوا شركاء منتجين (عبر الإثنوغرافيا الذاتية وإثنوغرافيا الأقران) في خلق معرفة تنطلق من الواقع المحلي وتكون ذات معنى. انطلاقاً من الفرضية القائلة بأن المعرفة التي يتم إنتاجها لا تكون ذات معنى إلا إذا تمّ استخدامها ومشاركتها وتخصيصها وتعديلها، نسعى إلى تحدي القيود التي تمنع تقييم "علم المواطن". كما نعتبر الخرائط والرسوم البيانية أدوات مهمة للاستقصاء والتواصل ونستثمر في إنتاجها قدر الإمكان لتوسيع نطاق دعواتنا وتعميم التقاليد التي لطالما ميّزت مساراتنا البحثية الفردية والجماعية على مدى العقود الماضية التي قمنا خلالها بإنتاج مواد علمية وصحافية ومقالات أكاديمية وافتتاحيات، وإدارة النقاشات في الساحات العامة، والمشاركة في اللقاءات المفتوحة واجتماعات المجتمع المحلي، واغتنام كل الفرص المتاحة لتسخير أدواتنا البحثية لخدمة المجتمعات التي نعمل معها.
عبير الزعتري ومنى فواز ويارا نحلة وسهى منيمنة يعرضن عمل المختبر حول الإسكان في مناظرة عامة نظمها ناشطون حضريون في الشارع (الصورة: إيزابيلا سرحان ، كانون الأول 2019)
أخيراً، نتطلّع إلى أن يصبح مختبر المدن في بيروت مرتكزًا مهمًا لمنظومات التغيير الحضري في المنطقة. كما نسعى إلى بناء المعرفة التي تعزز التآزر المستمر بين النشطاء والباحثين والمهنيين في البيئة العمرانية وتوطده، بحيث تسهم في بلورة وجهات النظر المشتركة وترجمة قيم العدالة والمسؤولية البيئية إلى واقع ملموس. هدفنا هو إنتاج معرفة مستنيرة وقائمة على الأدلة ومتاحة للاستخدام بهدف نصرة السياسات العامة وصنعها، سواء كانت تتعلق بحق السكن أو الحصول على المشهد، أو بالتعافي من الآثار المدمرة للحرب أو الدمار البيئي، أو بابتكار نماذج للحوكمة الشاملة والعادلة. ويبقى أملنا من هذا العمل الإعداد لسيناريو سياسي جديد يكون فيه العنصر الحضري جزءاً لا يتجزأ من ثورة بتنا في أمسّ الحاجة إليها.