لاستباق الرأسمالية أعقاب الكارثة، بيروت بحاجة ماسّة إلى تعافٍ متمركزٍ حول الناس
تُقطع الكهرباء والمياه في مناطق عديدة، وتتزايد مخاطر الفشل البنيوي، والتي تستند أحيانًا إلى اعتبارات متعلّقة بـ"السلامة"، حاملةً السكان المنهكين من جرّاء الصدمات النفسية على المغادرة الفورية. عشرات المباني باتت غير صالحة للسكن مع تحطّم أبوابها ونوافذها، فيما تقع مبان أخرى على مقربة من منطقة الدمار، بحيث يصعب الشعور داخلها بالأمان. كما ساهمت الخيام الغذائية التي استُحدِثت استجابةً للاحتياجات الطارئة، في تحويل الأحياء إلى "مواقع للاستجابة الإنسانية"، ما جذب السكان الفقراء الذين تدفقوا من أحياء أخرى للاستفادة من الإغاثة الغذائية. ومع سيطرة الجيش على الأحياء، يغزو الأرواح شعورٌ مشؤوم بالخطر.للمضي قدما، تشتدّ الحاجة إلى استعادة أيٍّ من عناصر الحياة الطبيعية في الأحياء، وتمكين عودة السكان إليها. يُعدّ ذلك شرطاً أساسياً لإعادة إحياء المدينة، وتجنب رؤية مزيد من أحيائها يقع رهينة المصالح العقارية، وهو ما عبّرت عنه مخاوف سكان عديدين تمكّنتُ من التحدّث إليهم. المخاوف هذه تغذّيها سيناريوهات كارثية، تعيد استنساخ التجارب السابقة لإعادة إعمار ما بعد الحرب في لبنان، ولا سيما تجربة شركة العقارات، سوليدير، في قلب بيروت التاريخي في نهاية الحرب الأهلية (1990). لم تكتفِ هذه الشركة العقارية بمنع عودة أصحاب المصلحة فحسب، بل إنها استفادت من الدعم والتسهيلات الحكومية السخية، وفشلت على الرغم من ذلك في استعادة قلب المدينة، أو توليد حياة حضرية أو اقتصاد فعال لتحريكها، وتشهد على ذلك أدلة كثيرة متراكمة على مدى عقدين. بدلاً من عكس آثار الحرب، أفضى تدخّل ما بعد الحرب الأهلية في وسط بيروت إلى تعزيز آثار هذه الحرب، وما يرافقها من عنف. ينبغي علينا ألا نكرّر هذا الخطأ.مغادرة السكان والشركات المناطق المحيطة بالمرفأ، حتى عندما تكون المباني التي استضافتهم قابلةً للترميم، ستشكل تهديدًا خطيرًا لعملية تعافي المدينة وأحيائها. لا شكّ في أن تحدياتٍ كثيرة تعترض إعادة التأهيل السريع، في ظلّ معاناة معظم السكان وأصحاب الأعمال من الفقر، نتيجة أشهر من الإغلاق المتداخل مع أزمة اقتصادية عالمية، وانهيار مالي وطني غير مسبوق. ولكن المرء يحتاج لتقييم خطر تحوّل هذا الإخلاء السريع إلى تهجير دائم، إلى تحديد آثار الانفجار في سياق السرديات التاريخية الحديثة، ومسارات الأحياء المحيطة بالمرفأ.خلال العقد الماضي على أقلّ تقدير1، تعرّضت الأحياء التاريخية المحيطة بالمرفأ، خصوصاً مار مخايل والجميزة وجعيتاوي، إلى الآثار المدمّرة الناجمة عن رأس المال النقدي الجامح وغير المكبوح. تحت وطأة الاستثمارات العقارية المضاربة بعدائية، وفي ظلّ تراجع العملة الوطنية، كانت هذه الأحياء تشهد عملية إجلاء لسكانها الدائمين، وذلك قبل وقوع الانفجار. في المناطق الواقعة ضمن القطر المحدّد للأضرار الجسيمة المحدّد من الهيئة الوطنية العليا للإغاثة، رصد المسح الذي أجراه مختبر المدن في بيروت عام 2018 أكثر من 250 قطعة أرض فارغة، بعضها مواقع للمباني المهدمة، و120 مبنى آخر تم إخلاؤه بالكامل، بهدف بيعه للمطوّرين العقاريين الذين كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة لهدمه. كما رُخّص ما لا يقل عن 350 تصريح هدم في المنطقة نفسها على مدار الأعوام الخمسة عشر الماضية. في المحصلة، تعادل هذه المواقع التي تم إخلاؤها حوالي واحدة من كل تسعة مبان في المنطقة!2 تفيد نتائج فريق البحث بأن هذه الاستثمارات هي نتاج تداخل السياسات العامة التي حفّزت تدفق رأس المال النقدي إلى البيئة العمرانية، من خلال سلسلة من الإعفاءات والحوافز المقدّمة للمؤسسات المالية. توقف هذا الاتجاه بضع سنوات، حيث بدا أن سوق العقارات آخذٌ في التباطؤ، لكنه ما لبث أن استعاد نشاطه نتيجة الانهيار المالي، حيث سارع أصحاب الحسابات إلى البحث عن وجهاتٍ أكثر أمانًا لتخزين أموالهم، بمجرّد أن أثبتت البنوك أنها غير موثوقة وغير قابلة لبلوغ حلّ.
بالإضافة إلى ذلك، أدّت سياسات الإسكان غير الملائمة إلى زجّ مقيمين كثيرين من ذوي الدخل المتوسط في ظروفٍ معيشية غير مقبولة سنوات عديدة. وهكذا، وضعت اتفاقيات الإيجار غير المنظمة أصحاب العقارات في مواجهة المستأجرين، سيما بعد التخفيض غير الرسمي لقيمة الليرة اللبنانية، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإيجار وتأليب المستأجرين ومالكي العقارات على بعضهم بعضا في مفاوضات مستنزِفة. كذلك، عانى أصحاب الأملاك خمسين عاماً من جرّاء أنظمة مراقبة الإيجارات المشوبة بالخلل، ما دفعهم إلى بيع عقاراتهم بأي ثمن، في ظلّ انعدام القدرة على معالجة أنظمة مراقبة الإيجارات المعلقة. ونتيجة سوء التنظيم المدني، تُرِكت الأحياء في حالةٍ من التعايش غير المريح بين سكانٍ ذوي تطلعات متباينة، مثل روّاد الحانات والمقيمين المسنين الذين حاربوا بعضهم بعضا بتصريحات وشكاوى قانونية وأشكال المقاومة اليومية (الإهانات ورشّ المياه على سبيل المثال)، في غياب هيئة تنظيمية قوية. وبشكل عام، أدّى إهمال البنية التحتية العامة لشبكات المياه والصرف الصحي، التي تعود إلى الأربعينيات من القرن الماضي، إلى تدهور ظروف بعض الأحياء، ما أسفر عن إبعاد من يستطيعون تحمّل كلفة المغادرة. هذه العوامل وغيرها دفعت عديدين من أصحاب العقارات إلى بيع منازلهم وأراضيهم. وفي أعقاب الانفجار، انتشرت شائعات كثيرة عن سعي مطوّري العقارات وسماسرتها إلى تحفيز السكان على البيع والمغادرة. الخطر حقيقي.في غياب المؤسسات العامة الفعالة وجهود الدولة المنسقة جيدا، لا بدّ من وضع الثقة في الناس ليتولّوا عملية التعافي من الكارثة. يجب تمكين سكان الأحياء وأصحاب الأعمال والعمال (بمن فيهم معلمو المدارس وموظفو المستشفيات) وكذلك الزائرين من أجل إعادة الحياة إلى المنازل وأماكن العمل. كما يجب الالتفات إلى القيمة المعمارية المميِزة لبعض المباني وتقنيات البناء الفريدة الخاصة بها، فضلاً عن السلامة الإنشائية للمباني الأكثر تضرّراً. وبينما أتعاطف مع حتمية الحفاظ على المباني التاريخية، فإن جهود الحفظ والسلامة يجب أن تُبذل، بالتعاون مع السكان، عبر إشراكهم في العملية، وإعطاء الأولوية لتلبية حاجاتهم الحياتية التي ستمكّنهم من العودة. وبالتالي، يجب رفع الحواجز القانونية (مثل التصاريح، اعتبارات الملكية) على الفور، كما تجب مقاومة الاتجاه إلى تطوير "خطط مستقبلية" وتجميد المناطق قيد الدراسة. بدلاً من ذلك، ينبغي، أولاً، تحفيز أصحاب العقارات الذين يمكن تجديد مبانيهم على الالتزام بشروط الإيجار العادلة، وإعطاء الأولوية لعودة السكان الذين كانوا يشغلونها قبل وقوع الكارثة. يمكن للمهنيين المشاركة بقوة على الأرض، عبر تقديم المشورة والدعم والتوجيه، ولكن عليهم، كما يفعل كثيرون بالفعل، العمل بتعليمات فورية ودعم ملموس على الأرض. كما ستكون إعادة الحياة الاقتصادية للحي على القدر نفسه من الأهمية، فقد كان أصحاب الأعمال يعانون أصلاً. كما أن وباء كورونا لم يتباطأ، بل على العكس، يتسع انتشاراً. وبعيدًا عن إعادة دعوتهم وتزويدهم بالحوافز للانتقال مجدّداً إلى هنا، سيجد كثيرون أن من الأسهل العمل عن بُعد.سيكون هناك متسع من الوقت لتقديم تخطيطٍ طويل الأمد، ولإعادة النظر في العلاقة بين المرفأ والمدينة، وموقع مبنى كهرباء لبنان والمساحة الهائلة الذي يحتلها، ولتصميم نصبٍ تذكاري، وغيرها من الأفكار الرائعة التي تقدّم بها الأصدقاء من المعماريين والمخططين.3 ومع ذلك، لن يكون هذا ممكنًا إلا إذا حوفظ على الطابع الفريد لكل من المناطق. والواقع أن إقدام المخططين والمسّاحين وغيرهم على تجميد المناطق، ريثما تنتهي عملية التقييم الشاملة، تمهيداً لوضع رؤية للمضي قدماً، لا يصبّ في مصلحة السكان، بل يشكّل خطراً عليهم. لا يتمتع كثيرون برفاهية الانتظار، وسيؤدي بهم ذلك إلى الاستقرار بشكل دائم في مكان آخر. سينتهي المطاف بأصحاب العقارات الموشكين على الإفلاس إلى بيع ممتلكاتهم بأسعار مخفّضة للمطوّرين والمضاربين الذين كانوا يطمعون في هذه المناطق منذ ما قبل الانفجار. وفي الوقت نفسه، تأتي أنظمة الملكية وحوافز البناء وأنظمة تصنيف المناطق وقوانين البناء المنقّحة لتقدّم إغراءاتٍ استثنائية لأولئك الذين يتطلعون إلى جني الأرباح من خلال القضاء على الأحياء.كان من شأن الانفجار أن يعجّل ما كان قائماً بالفعل، فالمدن مكونة من الناس، وتكمن قيمتها في الأشكال المتعدّدة للسكن والممارسات والتخيلات والتفاعلات الفردية والجماعية. للمباني أو الشوارع أو الحدائق أو الساحات الخلفية قيم اجتماعية مهمة، بوصفها الأطر التي يسكنها الناس، ويتفاعلون فيها مع بعضهم بعضا. من خلال تراكم استخداماتها، اكتسبت عديد من هذه المساحات قيمة تراثية مهمة: فهي تجسّد الذكريات، وتأتي في النهاية لتعكس السرديات التاريخية والهويات المجتمعية المشتركة القادرة على الجمع بين الناس. روح بيروت تكمن في أهلها؛ يجب أن نبدأ بهم.1 أتحدث في هذا المقال عن الأحياء المؤلفة من الطبقة الوسطى المحيطة بالمرفأ فقط. فقد نشأت توجهات مختلفة في مناطق الكرنتينا والبداوي والخندق الغميق ووسط بيروت، تُناقش في مقالٍ منفصل.2 البيانات الواردة في هذا المقال مستمدة من قاعدة بيانات البيئة العمرانية في بيروت التي وضعها مختبر المدن في بيروت. ويمكنكم الولوج إليها هنا.3 أود التعبير عن امتناني للأصدقاء سيرج يازجي وعمر بليق وشوهاغ أوهانيسيان وشكرهم على بعض الاقتراحات.