الكرنتينا ما بعد الكارثة: نحو تعافٍ مرتكز على الناس وقائم على التراث
هويدا الحارثي, بتول ياسين - 06.10.2020
منزل في الكرنتينا بعد الانفجار (الصورة: هيفاء أبو إبراهيم)
في أعقاب أحداث التصدّع العنيفة، تتكبد المدن محوًا للمكان والذاكرة واضطرابات في الممارسات الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية
لذا يصبح إصلاح الصلات العاطفية والروحانية والاجتماعية-الثقافية أساسيًّا لأي عملية تعافٍ، فيما يصبح الإرث الثقافي - الذي يضم مواقع ذات أهمية اجتماعية وذكريات متشاركة - بمثابة محفِّز لعملية التعافي الناجحة. يعمل التعافي الثقافي ضمن هذا السياق بشكل أوسع من التعريف المحدود للتراث المرتبط بالمحسوس والتاريخي، ويتعدى عملية التعافي العاجلة المرتكزة على الناس، والقائمة على الإرث، وذات الخصوصية المكانية، كي يواجه الحاجات الأساسية لما بعد الكارثة. الأهم من ذلك أن التعافي الثقافي يعنى بالممارسات الاجتماعية-المساحية التي تمثل جزءًا من الإرث غير المحسوس، ويعمل على المدى البعيد على إعادة بناء الممارسات الثقافية المقوّضة، والروابط الاجتماعية، والشبكات الاقتصادية. لذلك، فإن الأحياء الصناعية والتجمعات السكنية غير الرسمية مثل الكرنتينا، التي تمتاز بتاريخ اجتماعي وثقافي واقتصادي عميق، هي جديرة - كمثل أي حي آخر - بعملية تعافٍ مرتكزة على الناس وقائمة على الإرث وذات خصوصية مكانية.
انفجار في المدينة
إن 4 آب 2020 يوم مهم في تاريخ بيروت. ضرب يومها انفجار هائل المرفأ وأحياءه المجاورة بشكل كبير، من ضمن هذه الأحياء الجمّيزة ومار مخايل والجعيتاوي والكرنتينا. قُتل أكثر من 200 شخص وجرح 6,500 آخرون وهُجّر قرابة 300 ألف شخص. فقدت المدينة عددًا كبيرًا من معالمها التراثية المحسوسة وغير المحسوسة. تعتبر الأضرار المادية للبنايات التاريخية والمساحات المجتمعية المتجذرة في الذاكرة الجمعية لسكان المدينة أضرارًا محسوسة، فيما تتعلق الأضرار غير المحسوسة بالممارسات الاقتصادية والاجتماعية-المساحية المرتبطة بهذه المساحات. لم تتكبد هذه الأحياء دمارًا على نطاق واسع فحسب، بل هي الآن - ومرة أخرى - عرضة لخطر انتهازيي التطوير العقاري الذين يرون في الانفجار فرصة استثمارية. ضرب الانفجار الكرنتينا - وهي أحد أفقر أحياء المدينة ووجهة تاريخية مهمة للعمالة المهاجرة واللاجئين - وستتكبد تداعياته طويلة الأمد.
الكرنتينا
تقع الكرنتينا عند طرف المرفأ، وقد تغيّر دورها الحضري على مَر التاريخ. جاءت تسمية الحي نسبة لهدفه الأصلي كمنشأة حَجر صحي عثمانية بُنيت في ثلاثينات القرن التاسع عشر. في بدايات القرن العشرين، أصبحت الكرنتينا وجهة عمل للمهاجرين من الريف إلى المدينة وللعمال من الدول المجاورة. كانت الكرنتينا أيضًا مقصدًا للاجئين الأرمن والأكراد والفلسطينيين، بعد المذبحة الأرمنية عام 1915، والحرب العالمية الأولى، ونكبة عام 1948. أصبحت الكرنتينا مع الوقت حيًّا للطبقة العاملة ومصدرًا لليد العاملة في التجارة المحلية، والحياكة، والصناعات الحرفية في ستينات القرن العشرين. أصبحت المنطقة خلال الحرب الأهلية موقع مواجهة بين الفصائل المتقاتلة، ومن ضمنها منظمة التحرير الفلسطينية والمليشيات اليمينية المسيحية التي ارتكبت أحد أشد المجازر دموية في الحرب. أصبحت الكرنتينا منذ عام 2011 موطنًا لسوريين فارّين من الحرب. وكأن هذه المآسي المتراكمة غير كافية، إذ يعتبر سكان الكرنتينا بأنها نالت الهزّة الأقوى خلال انفجار 4 آب. في مقابلة مع بتول ياسين، عبّرت ليليان - وهي امرأة في الخمسين تعيش منذ زمن طويل في الكرنتينا - عن هذا الشعور دامعة: "كل شي صار بالكرنتينا من مصايب بكفّة، وهيدا الانفجار بكفّة تانية. رأسًا بعد الانفجار، تذكرتُ كل المشاهد المفجعة من الحرب الأهلية… أجساد ممزقة، جثث متدلية من الشرفات، أطفال يصرخون من تحت الأنقاض طالبين النجدة. لكن هذه المرة كنا في حيرة، هل كان هجومًا إسرائيليًا أم انفجارًا؟"