أهمية الممارسات الاجتماعية-المكانية في التعافي المديني
لكن معظم الممارسات الاجتماعية-المكانية تتجلّى في مساحات مدينية أخرى، غير مخططة، تتميز غالبًا بإيقاعها الخاص ومواقيتها. نرصد هذه الممارسات عند الصباح الباكر في شارع في الجعيتاوي، حيث يطل صائغ من باب محله الصغير حاملًا صينية معدنية عليها فنجانان من القهوة الساخنة التي اشتراها من كشك القهوة. يجلس الصائغ على أحد كرسيي البلاستيك اللذَيْن وضعهما على الرصيف بانتظار جاره وكيل السفريات كي يأتي ليدردش معه قبل أن يبدأ يومه في العمل. نقتنص تلك الممارسات قبالة درج البرجاوي في الناصرة، حيث يجلس الرجال بلا مبالاة على شرفاتهم المطلة على الدرج، وحيث تجتمع النساء لشرب القهوة بعد الظهر عند مداخل بناياتهن، وحيث نرى العاملات المهاجرات اللواتي يسكنّ على امتداد الدرج وهن يقطفن البامية التي زرعنها في حوض قريب لتحضير العشاء. نلاحظ تلك الممارسات في ظل شجرة التين الكبيرة ذات الخمسين عامًا في مار مخايل، حيث يقضي سائقو التاكسي أوقاتهم ويلعبون الطاولة خلال الاستراحة من العمل.
هذه الممارسات الاجتماعية-المكانية متجذّرة بعمق في تاريخ بيروت المديني، ويمكن اختبارها في الشوارع والأسواق والعديد من الأماكن المفتوحة العامة والخاصة والتي قد تكون مخفية بشكل أو آخر، مثل الأزقة، والأدراج التاريخية، ومداخل المباني، والأراضي الشاغرة، وغيرها من المواقع المعتمدة. إن الممارسات الاجتماعية-المكانية مهمة بصفتها مواقع للتآلف والتفاعل الاجتماعي، حيث يلعب الأطفال بأمان، ويجتمع المسنون، وتلتقي النساء للأحاديث، وحيث يقضي المهاجرون واللاجئون وغيرهم من المجموعات المهمشة أوقاتهم ويُنشئون مجتمعاتهم.
تنمّي هذه الممارسات لما يسميه بعض الكتاب "مواطنة مدينية"، وهي حس بالانتماء المديني الشامل، حيث "يشمل الحق بالمدينة كل السكان، بصرف النظر عن الأصول أو الهوية أو شرعية الحضور". على الرغم من كون هذه الأمثلة في غالب الأوقات مؤشرات إيجابية على حياة عامة قيّمة، علينا ألا ننظر للمارسات الاجتماعية-المكانية من منظور رومنسي، إذ أنها قد تحمل أشكالًا من الإقصاء تجاه النساء، والمهاجرين واللاجئين، خاصة في سياق الأنظمة مؤسساتية القائمة على السلطة الأبوية، والمعيارية الغيرية، والتمييزية، كما في لبنان.