العقارات و المساحات الشاغرة في المناطق الحضرية كفرص لاستعادة الأماكن العامة في أوقات الأزمات والتقشّف
دانه مزرعاني - 09.12.2020
دانه مزرعاني، 2019
بينما يواجه لبنان أزمات متعدّدة، ويعاني شعبه أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، تبرز الحاجة الماسّة إلى التضامن. وقد تلعب المساحات التي يمكن أن يلتقي ويتواصل فيها الناس، دوراً مفصليّاً في رعاية هذا التضامن. إذ تشكّل المساحات والعقارات الشاغرة المشابهة مساحات مناسبة يمكن أن تنشأ فيها الملاعب، وبنوك وجبات الغذاء المجّانية، والبنية التحتيّة الأساسيّة، بحيث يختبر الناس أشكالاً جديدة من الحياة المجتمعيّة المشتركة.
في آذار 2020، أغلقت السلطات اللبنانية المتنزّهات والحدائق كجزء من مجموعة أوسع من التدابير في محاولة للحدّ من خطر انتقال عدوى فيروس كوفيد-19. ولم يُعد فتحها إلّا بعد ثلاثة أشهر، إلى جانب مراكز الرعاية النهاريّة ودور السينما والحانات والملاهي الليليّة والنوادي الرياضيّة. ولا بدّ من إعادة النظر بهذا الخلط بين الأماكن العامة المفتوحة وأماكن التجمّع المغلقة.
نظراً إلى دورها الحيوي في المدن، كان ينبغي أن تكون من بين أوائل الأماكن العامة التي يُعاد فتحها، مع ضمان التباعد الجسدي. فالأماكن العامة تُحسِّن الصحّة البدنية والعقليّة، وتعزّز التفاعل الاجتماعي، وتدعم التنمية الاقتصاديّة، وتساعد على بناء المواطنة الحضريّة الشاملة.في أعقاب انفجار مرفأ بيروت الذي وقع في 4 آب، أثبتت العقارات الشاغرة والمنشآت المهجورة أنّها تلعب دوراً حيوياً في إدارة الكوارث، من خلال الإستفادة منها كأماكن للإغاثة والتعبئة والتجمّع.إنّ بيروت مدينة مكتظّة وسريعة التحضّر، حيث تقلّ الأماكن العامة الرسميّة وتساء إدارتها: وهي تتألّف من 21 متنزهاً وحديقة تبلغ مساحتها أقلّ من متر واحد مربع (1 م2) لكلّ مقيم، وكورنيشاً بحرياً، وبعض المواقع الساحليّة المتاحة للعموم.ونظراً إلى الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة الراهنة في لبنان، فإنّ تنفيذ الخطط والمشاريع الكبرى أمرٌ مستحيل. مع ذلك، وبما أنّ المخطّطين يدركون الأهمية الحاسمة للأماكن العامة الخضراء المفتوحة والشاملة، يتعيّن علينا أن نفعّل وجودها في المدينة بحيث أن نعمل بما هو متوفّر وليس ما ينبغي أن يكون متوفّراً.في مدينةٍ تعطي الأولويّة لرفاه الناس، يتعيّن على البلديات دعم التغيير الحضري والضغط من أجل إعادة تنشيط الحياة العامة. فالبلديات تتمتّع بالصلاحيات القانونيّة اللازمة لوضع الاستراتيجيّات الحضريّة على نطاق المدن، والخطط على مستوى الأحياء التي يمكن أن تشرك السكان في تحسين بيئتهم المبنية. ولا بدّ من أن يلعب التنقّل دوراً مركزياً في هذه الاستراتيجيّة، وأن يربط الأماكن العامة الرسمية القائمة في العقارات الشاغرة أو غير القابلة للبناء، وفي المباني المهجورة، والمواقع الثقافيّة والمدنيّة، مما يشكّل شبكة من المساحات المشتركة المفتوحة التي تخدم وتربط بين أحياء عدّة. ويمكن لهذه الشبكة أن تعزّز الانتماء والشعور بالملكيّة الجماعيّة، وبالتالي تحسّن من الإدماج والمواطنة.في حال تبنّت بلدية بيروت هذه الأولويّات، فإنّ الحياة العامة في العاصمة ستزدهر، وستمنح السكان بعض الراحة إزاء صعوباتهم اليوميّة. ولكن في غياب بلدية مسؤولة، يتعيّن على الناشطين الحضرييّن الاستمرار في الدعوة إلى تحسين مدينتهم. وتقدّم مجموعة التوصيات الأربع الآتية إجراءات عمليّة يمكن تنفيذها بسهولة نسبياً، من خلال الشراكات مع القطاع الخاص ومجموعات المجتمع المدني، على غرار الشراكات القائمة بالفعل في مختلف الأحياء، وإن بطرق غير منسّقة (مثل أسواق المواد الغذائيّة، والأسواق المؤقّتة، و البستنة المصغّرة):
أولاً، يجب فتح الأماكن العامة الحالية وإعادة تأهيلها حسب الحاجة؛ وينبغي تنفيذ المتنزه البحري قرب "زيتونة باي". ثانياً، يجب إتاحة الأماكن العامة المغلقة، مثل المكتبات الوطنية والبلدية (بحيث لا يكون المستخدم مستهلكاً). ثالثاً، لا بدّ من إعادة تصميم الشوارع على نحوٍ يعطي الأولوية للمشاة. ولاستخلاص العبر من تأثير فيروس كوفيد-19 على بيروت، فقد اعتمد العديد من الناس ركوب الدراجة والمشي، لذا يجب تعويد المدينة التي تهيمن عليها السيارات على اعتماد وسائل نقل ممتعة ومفيدة. وباستخدام أدوات التخطيط التكتيكي، يمكن إدخال تدابير بسيطة وقليلة التكلفة لتشجيع النقل الصديق للبيئة.رابعاً، وربّما الأهمّ، إعادة تخصيص العقارات والمساحات الشاغرة في المناطق الحضريّة (العامة والخاصة، المبنيّة وغير المبنيّة)، بصورة مؤقّتة أو على المدى الطويل للاستخدام الجماعي والمشترك. ويمكن أن تزدهر التفاعلات الاجتماعيّة والممارسات المكانيّة المخطّط لها (وغير المخطّط لها) في هذه المواقع. اليوم، ولأسباب متعدّدة، لا سيما تسليع الأراضي وأنظمة البناء التي تشجّع المضاربة العقاريّة، أصبحت بيروت الإدارية غنيّة بمجموعةٍ واسعة من العقارات والمساحات الشاغرة. وفي دراسة باشرناها في صيف 2019 في مختبر المدن في بيروت في الجامعة الأميركية في بيروت، تبيّن لنا وجود 932 أرض شاغرة ذات ملكيّة عامة في بيروت الإدارية ، تبلغ مساحتها الإجمالية 210،000 متر مربّع.تكمن قيمة العقارات والمساحات الشاغرة في المناطق الحضريّة في مرونتها. وخلافاً للأماكن العامة الرسميّة، فإنّ المساحات الشاغرة في المناطق الحضريّة هي عبارة عن "مساحات فضفاضة"، تشجّع الأنشطة العفويّة والإبداعيّة مثل الملاعب المفتوحة، أو تجمّعات المجتمع المحلّي، أو الزراعة الحضريّة. وبالإضافة إلى تعزيز القيمة الاجتماعيّة للأراضي، فإن المساحات الشاغرة في المناطق الحضريّة قد تساعد على النهوض بالاحتياجات الإيكولوجيّة إذا ما استخدمت بالاقتران مع البنية التحتية الخضراء.إنّ ابتكار أساليب شاملة لاستخدام وإدارة العقارات والمساحات الشاغرة في المناطق الحضرية، يوفّر فرصاً مؤاتية لزيادة مخزون المساحات المفتوحة ونطاقها في المدن المكتظّة. وعلاوةً على ذلك، تكتسب العقارات والمساحات الشاغرة أهميّة خاصة في أوقات الغموض والركود الإقتصادي. فهي عادةً لا تتطلّب الكثير من الإستثمارات الرأسمالية أو الصيانة، ويمكن إدارتها على نحو مشترك وتشغيلها بشكلٍ مؤقّت، ممّا يسفر عن نتائج سريعة. ومن الناحية البرنامجيّة، يمكن للمبادرات في المساحات الشاغرة أن تستجيب لحاجات الحيّ، بدءاً من البنية الأساسيّة إلى الزراعة، إلى توليد إحساسٍ بالملكيّة الجماعيّة.قبل انفجار مرفأ بيروت، جرّبت بعض المجموعات إطلاق مبادرات ذات معايير وغايات متنوّعة: مثل تطوير مشروع تشجير في أرض شاغرة قرب نهر بيروت؛ وإنشاء سينما في الهواء الطلق تعرض أفلاماً للأطفال في شارع مغلق في الجعيتاوي؛ إضافةً إلى تنظيف حديقة بلدية صغيرة مهملة في محلّة كراكاس...بعد الانفجار، أصبح العديد من المساحات المفتوحة مواقع للإغاثة والدعم للمجتمع المحلّي. على سبيل المثال، اكتسبت حديقة الجعيتاوي هذا الدور عضوياً وتلقائياً بوصفها مدموجة بشكلٍ جيّد في النسيج الحضري ومقصداً للعديد من السكان. وقد استحوذت مجموعة محليّة ("Nation Station") على أرض شاغرة تضمّ محطّة وقود مهجورة ومتداعية في تلك المحلّة وذلك لتوفير الغذاء المجاني وأشكال أخرى من المساعدات.وعلى الرغم من كلّ الصعاب، تؤدّي الممارسات الاجتماعيّة المكانيّة دوراً حيوياً في بيروت. ويمكن أن نلاحظ ذلك، وإن بشكلٍ عابر، في كيفية إعادة ظهورها مجدّداً في المناطق المتضرّرة من الانفجار، حتى وإن لم يكن الناس قد عادوا بعد إلى دورهم وأحيائهم بشكلٍ كامل. يتجلّى ذلك من خلال جلوس الأهالي على الكراسي البلاستيكية خارج محلات البقالة، والأعمال التجارية الصغيرة التي تنشط كنقاط محوريّة داخل الأحياء حيث يرحّب أصحابها بالمارّة المألوفين، ومن خلال السكان الذين يشربون القهوة على شرفات منازلهم أثناء مشاهدة أنشطة إعادة الإعمار، وكذالك الأطفال الذين يلعبون كرة القدم في مواقف السيارات الفارغة. كلّ هذه الحالات تظهر كيفية استعادة الناس لأحياءهم ومساحاتهم المشتركة تدرجياً.لا شكّ في أنّ إعادة تخصيص العقارات والمساحات الشاغرة في المناطق الحضريّة لن تعالج الجذور المسبّبة لأوجه عدم المساواة الحالية، ولكن مثل هذه الإجراءات قد تبقى وثيقة الصلة بالحياة العامة اليومية في المدن. وبينما يواجه لبنان أزمات متعدّدة، ويعاني شعبه أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، تبرز الحاجة الماسّة إلى التضامن. وقد تلعب المساحات التي يمكن أن يلتقي ويتواصل فيها الناس، دوراً مفصليّاً في رعاية هذا التضامن. إذ تشكّل المساحات والعقارات الشاغرة المشابهة مساحات مناسبة يمكن أن تنشأ فيها الملاعب، وبنوك وجبات الغذاء المجّانية، والبنية التحتيّة الأساسيّة، بحيث يختبر الناس أشكالاً جديدة من الحياة المجتمعيّة المشتركة.