هدم أهراءات المرفأ يُرسّخ فقدان الذاكرة الجماعية في لبنان
منى فواز, سهى منيمنة - 13.05.2022
الصورة: منى فواز، آب 2020
إن الحفاظ على التاريخ ليس خيارًا تقنيًا بل سياسيٌ بحت. ما يختار المجتمع الاحتفال به أو طمسه له عواقب وخيمة على هويته الجماعية.
تصرّ الطبقة السياسية في لبنان على طمس أدلة آخر مسارح جرائمها وهو موقع انفجار مرفأ بيروت الذي هزّ المدينة وتسبّب بهدم وإضرار أكثر من ثلث مبانيها ومقتل المئات وجرح الآلاف من سكانها. تستعد الحكومة اللبنانية إلى هدم أهراءات المرفأ المدمّرة، وهي الهيكل الوحيد الذي ما زال صامدًا بالقرب من محور الانفجار، بدعوى أنّها عرضةٌ للانهيار.
سيدُّق قرار هدم الأهراءات مسمارًا في نعش عملية التحقيق المتعثرّة في جريمة المرفأ التي يعتزم أمراء الحرب المنتحلين صفة رجال دولة على إغلاقها. منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية أصبح العبث بأدلة الجرائم المرتكبة في حق المدنيين وطمس آثارها أمرًا عاديًا. ولا شك أنّ قرار هدم الأهراءات أو الحفاظ عليها هو عملٌ سياسي بحت وليس قراراً تقنيًا. وكغيرنا من المواطنين اللبنانيين الملتزمين بقضية المساءلة، نناصر قضية الحفاظ على الأهراءات الصامدة كذكرى تخلّد طموح الشعب اللبناني إلى بناء مستقبلٍ زاهرٍ وعادلٍ.
تحوّلت الأهراءات منذ تاريخ بنائها في عام 1970 إلى جزء لا يتجزأ من أفق العاصمة وإحدى أهم الطبقات العمرانية الحديثة من تراث بيروت العمراني، حتى صارت رمزًا لعصر بناء الدولة في لبنان. حتى تاريخ الانفجار كانت الأهراءات تحوي 85 بالمئة من إمدادات الحبوب في البلاد حسب وزارة الإعلام. ثم اكتسب الموقع قيمة تراثية إضافية بعد الانفجار، إذ تحوّل إلى رمز صارخ للبقاء يخلّد ذكرى مدينة بيروت وسكانها. تقع الأهراءات على بعد 85 متر فقط من مركز الانفجار ولم يصمد منها اليوم سوى 14 صومعة فقط من أصل 48. وعلى الرغم من خسارة هذا الهيكل لوظيفته كأهراءات للحبوب، ستظل ندوبه الظاهرة معلمًا شاهدًا على صرخة الشعب المطالبة بالعدالة ومحاسبة المجرمين. ترمز الأهراءات مع الحفرة المحيطة بها، والبالغ عمقها 43 مترًا، إلى انفجار المرفأ والاحتجاجات التي اندلعت بعده مطالبةً بمحاسبة المسؤولين.
ومصير الأهراءات اليوم ما زال معلّقًا منذ إصدار الحكومة قرار الهدم في 14 نيسان ويتوقف تنفيذه على توقيع وزير واحد فقط. واليوم تسعى الهيئات العامة المحلية والمركزية نفسها التي تقاعست عن دعم عملية التعافي بعد الانفجار وألقت مسؤولية تصليح منازل الضحايا على عاتق الهيئات غير الحكومية إلى التأثير على قرار الهدم وتبريره تحت مسوّغ "السلامة العامة". وبدلاً من منح ما يزيد عن 1,500 مبنى سكني وتجاري متضرر في بيروت الأولوية في الإصلاح، حوّل أولئك المسؤولون أنظارهم نحو أهراءات المرفأ وأصدروا تكليفًا بإجراء دراسة عن ضرورة هدمها. ولما جاءت نتائجها متناقضة، لم تعلن الحكومة إلا عن أقسام الدراسة التي توضح أسباب الهدم. كما تتعمّد جرّ العملية بأكملها نحو مسار المحو الكامل.
تجمّع أهالي الضحايا دفاعًا عن الموقع وأصرّوا على الحفاظ عليه كشاهد مادّي على رحيل أحبتهم ولكن بعد انتهاء التحقيق في الانفجار وأخذ العدالة مجراها، فعندها فقط، حسب رأيهم، يمكن التدخل لتحويل الأهراءات ومحيطها إلى نصب تذكاري. تبيّن إحدى دراسات مختبر المدن في بيروت التي أجريت بتفويض من هيئة الأونيسكو قيمة الأهراءات التراثية الهامة، وقد حظيت هذا الحجة بدعم مجموعة مؤلفة من 25 خبير وخبيرة في مجال الحفاظ على التراث التي سلّمت تقريرها إلى هيئة الأونيسكو ووزارة الثقافة، كما دعمتها مبادرة بيان بيروت العمراني التي أطلقتها نقابة المهندسين في لبنان لمناصرة إعادة تأهيل التراث وإعادة بناء النسيج الاجتماعي في المناطق المتضررة من الانفجار. طالبت جميع الجهات المذكورة بتصنيف الأهراءات كـ "تراث محمي"، كما أجمع خبراء من نقابة المهندسين على أهمية الأهراءات وقدّموا لتجمع أهالي ضحايا انفجار المرفأ تقريرًا تقنيًا يدعم قضية الحفاظ على الأهراءات. وعلى الرغم من كل الأدلة ما زال وزير الثقافة مترددًا في تصنيف الأهراءات كموقع تراثي يستحق الحماية وإن بدا داعمًا له في البداية.
ماذا عن الجانب البنيوي للمسألة؟ تعترف دراسات الخبراء بفداحة الأضرار التي لحقت بأجزاء من الصوامع المتبقية دون أن تتوقع انهيارًا تامًا لها. يُلمح التقرير العام المعدّ بتكليف من الحكومة إلى خيارين للهدم أو التدعيم، دون تقديم اقتراح واضح للعمل. يشير رأي نقابة المهندسين عن بنية الأهراءات إلى ضآلة احتمال انهيار الأهراءات على المديين القصير والمتوسط على الأقل، نظرًا لمعدّل التوائها ونوع المواد البنائية المستخدمة. يوجد إجماع بين الخبراء على أن الأهراءات لن تنهار بشكل فوري وهناك جزء أساسي مؤلف من ست صوامع أدنى جنوب المبنى ما زال سليم البنية. وبغض النظر عن السلامة البنيوية لجميع الصوامع المتبقية، يتفق الخبراء على أن موقع الأهراءات قد تعرّض للتلوّث والضرر بفعل الانفجار، ما يعني أنه غير صالح لاحتواء إمدادات الحبوب في المستقبل.
ومع أن العديد من المسؤولين اللبنانيين قد عرضوا قرار هدم الأهراءات من ناحية تقنية فقط، معتبرين بأن مزاعم الحفاظ عليها قائمة على "الشاعرية" فحسب، يملك الرأي العام اللبناني أسبابًا كافية تدعوه إلى الشك في صحة ما يُقال. يستذكر الكثيرون مراحل سابقة من تاريخ البلاد، وبالأخص في فترة ما بعد الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، حيث هُدمت عشرات المباني في وسط بيروت التاريخي تحت مبرّر الضعف البنيوي. ثم كُشف زيف تلك المزاعم وعُرف أن القصد من تدمير تلك المباني تطهير الأراضي لإعادة إعمارها وتطويرها بهدف الربح تحت شعار إعادة إعمار ما بعد الحرب. ولعلّ أكثر المباني المدمّرة خلودًا في الذاكرة، والذي يُعدّ رمزًا عمرانيًا لبيروت الستينيات، مبنى سينما ريفولي في ساحة الشهداء الذي طُوّق بالمواد المتفجرة فقاوم الانهيار غير مرّة قبل سقوطه إلى الأبد. يقف ذاك الموقع الخالي اليوم في وسط بيروت كشاهدٍ على عملية إعادة إعمار فاشلة عجزت عن حماية الذكريات وإعادة بناء المدينة والوطن بشكل كامل.
إن الحفاظ على التاريخ ليس خيارًا تقنيًا بل سياسيٌ بحت. ما يختار المجتمع الاحتفال به أو طمسه، له عواقب وخيمة على هويته الجماعية. فهو يشكّل السرديات التي تتعلمها الأجيال الناشئة كتاريخٍ مشترك والمظاهر العمرانية التي يعتبرونها ملكًا لهم. بتعبير آخر، يُعدّ هذا الحفاظ ضروريًا للمجتمعات كي تتذكّر تاريخها المشترك وتعزّز أواصرها الاجتماعية. كما أنه استراتيجية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية إذ يزيد من المساحات العامة وينشّط السياحة. أما بالنسبة إلى السياق اللبناني الذي يُكرِّس النزاع المجتمعي والاستبداد، فليس الحفاظ على التراث إلا وسيلة لتشكيل الرواية الجماعية الجامعة للمجتمعات المشتتة وصونها وإعادة تأهيلها والمساهمة في بناء اقتصاد شامل. وقد يتحقق ذلك من خلال صدّ ممارسات الدولة التي تتعمّد قمع الذاكرة وتُقصي عن كتب التاريخ أي نقاش يتعلق بالتاريخ المشترك منذ 150 عامًا كما تمتنع عن تخليد ذكريات الصدمات الوطنية التي يرتبط معظمها بالحرب الأهلية.
يعتبر الكثير من الناشطين والمتخصصين في مجال التراث أن امتناع الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي تضمّ متهمين بجرائم تمتد زمنيًا من الحرب الأهلية حتى تفجير المرفأ عام 2020 عن تخليد ذكرى ضحاياها ليس محض صدفة. فهذه الطبقة السياسية الفاسدة لا تريد أن يتوحّد هؤلاء الضحايا ويصبحوا مجتمعًا واحدًا، ولهذا السبب تحديدًا يجب الحفاظ على أهراءات مرفأ بيروت.
تحوّلت الأهراءات منذ تاريخ بنائها في عام 1970 إلى جزء لا يتجزأ من أفق العاصمة وإحدى أهم الطبقات العمرانية الحديثة من تراث بيروت العمراني، حتى صارت رمزًا لعصر بناء الدولة في لبنان. حتى تاريخ الانفجار كانت الأهراءات تحوي 85 بالمئة من إمدادات الحبوب في البلاد حسب وزارة الإعلام. ثم اكتسب الموقع قيمة تراثية إضافية بعد الانفجار، إذ تحوّل إلى رمز صارخ للبقاء يخلّد ذكرى مدينة بيروت وسكانها. تقع الأهراءات على بعد 85 متر فقط من مركز الانفجار ولم يصمد منها اليوم سوى 14 صومعة فقط من أصل 48. وعلى الرغم من خسارة هذا الهيكل لوظيفته كأهراءات للحبوب، ستظل ندوبه الظاهرة معلمًا شاهدًا على صرخة الشعب المطالبة بالعدالة ومحاسبة المجرمين. ترمز الأهراءات مع الحفرة المحيطة بها، والبالغ عمقها 43 مترًا، إلى انفجار المرفأ والاحتجاجات التي اندلعت بعده مطالبةً بمحاسبة المسؤولين.
ومصير الأهراءات اليوم ما زال معلّقًا منذ إصدار الحكومة قرار الهدم في 14 نيسان ويتوقف تنفيذه على توقيع وزير واحد فقط. واليوم تسعى الهيئات العامة المحلية والمركزية نفسها التي تقاعست عن دعم عملية التعافي بعد الانفجار وألقت مسؤولية تصليح منازل الضحايا على عاتق الهيئات غير الحكومية إلى التأثير على قرار الهدم وتبريره تحت مسوّغ "السلامة العامة". وبدلاً من منح ما يزيد عن 1,500 مبنى سكني وتجاري متضرر في بيروت الأولوية في الإصلاح، حوّل أولئك المسؤولون أنظارهم نحو أهراءات المرفأ وأصدروا تكليفًا بإجراء دراسة عن ضرورة هدمها. ولما جاءت نتائجها متناقضة، لم تعلن الحكومة إلا عن أقسام الدراسة التي توضح أسباب الهدم. كما تتعمّد جرّ العملية بأكملها نحو مسار المحو الكامل.
تجمّع أهالي الضحايا دفاعًا عن الموقع وأصرّوا على الحفاظ عليه كشاهد مادّي على رحيل أحبتهم ولكن بعد انتهاء التحقيق في الانفجار وأخذ العدالة مجراها، فعندها فقط، حسب رأيهم، يمكن التدخل لتحويل الأهراءات ومحيطها إلى نصب تذكاري. تبيّن إحدى دراسات مختبر المدن في بيروت التي أجريت بتفويض من هيئة الأونيسكو قيمة الأهراءات التراثية الهامة، وقد حظيت هذا الحجة بدعم مجموعة مؤلفة من 25 خبير وخبيرة في مجال الحفاظ على التراث التي سلّمت تقريرها إلى هيئة الأونيسكو ووزارة الثقافة، كما دعمتها مبادرة بيان بيروت العمراني التي أطلقتها نقابة المهندسين في لبنان لمناصرة إعادة تأهيل التراث وإعادة بناء النسيج الاجتماعي في المناطق المتضررة من الانفجار. طالبت جميع الجهات المذكورة بتصنيف الأهراءات كـ "تراث محمي"، كما أجمع خبراء من نقابة المهندسين على أهمية الأهراءات وقدّموا لتجمع أهالي ضحايا انفجار المرفأ تقريرًا تقنيًا يدعم قضية الحفاظ على الأهراءات. وعلى الرغم من كل الأدلة ما زال وزير الثقافة مترددًا في تصنيف الأهراءات كموقع تراثي يستحق الحماية وإن بدا داعمًا له في البداية.
ماذا عن الجانب البنيوي للمسألة؟ تعترف دراسات الخبراء بفداحة الأضرار التي لحقت بأجزاء من الصوامع المتبقية دون أن تتوقع انهيارًا تامًا لها. يُلمح التقرير العام المعدّ بتكليف من الحكومة إلى خيارين للهدم أو التدعيم، دون تقديم اقتراح واضح للعمل. يشير رأي نقابة المهندسين عن بنية الأهراءات إلى ضآلة احتمال انهيار الأهراءات على المديين القصير والمتوسط على الأقل، نظرًا لمعدّل التوائها ونوع المواد البنائية المستخدمة. يوجد إجماع بين الخبراء على أن الأهراءات لن تنهار بشكل فوري وهناك جزء أساسي مؤلف من ست صوامع أدنى جنوب المبنى ما زال سليم البنية. وبغض النظر عن السلامة البنيوية لجميع الصوامع المتبقية، يتفق الخبراء على أن موقع الأهراءات قد تعرّض للتلوّث والضرر بفعل الانفجار، ما يعني أنه غير صالح لاحتواء إمدادات الحبوب في المستقبل.
ومع أن العديد من المسؤولين اللبنانيين قد عرضوا قرار هدم الأهراءات من ناحية تقنية فقط، معتبرين بأن مزاعم الحفاظ عليها قائمة على "الشاعرية" فحسب، يملك الرأي العام اللبناني أسبابًا كافية تدعوه إلى الشك في صحة ما يُقال. يستذكر الكثيرون مراحل سابقة من تاريخ البلاد، وبالأخص في فترة ما بعد الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، حيث هُدمت عشرات المباني في وسط بيروت التاريخي تحت مبرّر الضعف البنيوي. ثم كُشف زيف تلك المزاعم وعُرف أن القصد من تدمير تلك المباني تطهير الأراضي لإعادة إعمارها وتطويرها بهدف الربح تحت شعار إعادة إعمار ما بعد الحرب. ولعلّ أكثر المباني المدمّرة خلودًا في الذاكرة، والذي يُعدّ رمزًا عمرانيًا لبيروت الستينيات، مبنى سينما ريفولي في ساحة الشهداء الذي طُوّق بالمواد المتفجرة فقاوم الانهيار غير مرّة قبل سقوطه إلى الأبد. يقف ذاك الموقع الخالي اليوم في وسط بيروت كشاهدٍ على عملية إعادة إعمار فاشلة عجزت عن حماية الذكريات وإعادة بناء المدينة والوطن بشكل كامل.
إن الحفاظ على التاريخ ليس خيارًا تقنيًا بل سياسيٌ بحت. ما يختار المجتمع الاحتفال به أو طمسه، له عواقب وخيمة على هويته الجماعية. فهو يشكّل السرديات التي تتعلمها الأجيال الناشئة كتاريخٍ مشترك والمظاهر العمرانية التي يعتبرونها ملكًا لهم. بتعبير آخر، يُعدّ هذا الحفاظ ضروريًا للمجتمعات كي تتذكّر تاريخها المشترك وتعزّز أواصرها الاجتماعية. كما أنه استراتيجية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية إذ يزيد من المساحات العامة وينشّط السياحة. أما بالنسبة إلى السياق اللبناني الذي يُكرِّس النزاع المجتمعي والاستبداد، فليس الحفاظ على التراث إلا وسيلة لتشكيل الرواية الجماعية الجامعة للمجتمعات المشتتة وصونها وإعادة تأهيلها والمساهمة في بناء اقتصاد شامل. وقد يتحقق ذلك من خلال صدّ ممارسات الدولة التي تتعمّد قمع الذاكرة وتُقصي عن كتب التاريخ أي نقاش يتعلق بالتاريخ المشترك منذ 150 عامًا كما تمتنع عن تخليد ذكريات الصدمات الوطنية التي يرتبط معظمها بالحرب الأهلية.
يعتبر الكثير من الناشطين والمتخصصين في مجال التراث أن امتناع الحكومات اللبنانية المتعاقبة التي تضمّ متهمين بجرائم تمتد زمنيًا من الحرب الأهلية حتى تفجير المرفأ عام 2020 عن تخليد ذكرى ضحاياها ليس محض صدفة. فهذه الطبقة السياسية الفاسدة لا تريد أن يتوحّد هؤلاء الضحايا ويصبحوا مجتمعًا واحدًا، ولهذا السبب تحديدًا يجب الحفاظ على أهراءات مرفأ بيروت.