التصوير الذهني لوسط بيروت في أعمال روبير صليبا
نكرّم ذكرى صديقنا وزميلنا وأستاذنا الراحل روبير صليبا في منشورنا هذا الذي نستعرض فيه أولى أعماله الرائدة التي ابتكرها بالتنسيق مع طلابه من خلال هذا النص القيّم والمنقطع النظير. ومع استمرار تلاشي ذاكرة بيروت يبرز هذا العمل كشاهد على أهمية أعمال صليبا وارتباطها بالواقع.
عمل روبير صليبا أستاذًا للعمارة والتصميم الحضري والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت وظلّ متعلقًا خلال مسيرته المهنية العالمية بمدينة بيروت. أصبح صليبا مرجعًا لأجيال متعاقبة من الأكاديميين والمخططين والمهندسين المعماريين الذي حذوا حذوه. خلال الحرب الأهلية اللبنانية، اختار صليبا اجتياز مناطق النزاع يوميًا ليلقي محاضراته في الجامعة الأميركية والأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (جامعة الألبا). خلال الحرب وفترة إعمار ما بعد الحرب، وثّق عملية تحوّل المدينة والتغيّر المستمرّ للتراث. ظلّ صليبا مناصرًا للتراث الحضري في بيروت واضعًا إياه ضمن سياق الوقائع السياسية والاقتصادية الحضرية المعاصرة التي واجهتها أجيال ما بعد الحرب وذلك حتى وفاته في عام 2022.
علاوةً على نشاطاته الدعوية الواسعة وأعماله الاستشارية، كان صليبًا أستاذًا شغوفًا إذ تحدّى معايير العمارة وممارسات التصميم الحضري ودفع طلابه إلى التفكير بالبيئة المبنية بشكل نقدي وإبداعي. ابتكر صليبا فكرة كتاب Morphological Investigation of Downtown Beirut ونسق العمل الطلابي الذي أدى إلى تأليفه فأصبح مرجعًا للأجيال الصاعدة من المصممّين الحضريين. يطرح الأستاذ من خلال هذا العمل المنهجي المهم أسئلة عن "النظام الجمالي للحيّز العام" ويبحث عن أساليب لفهم التراث المعماري وتطوّره التاريخي والعمليات الموّلدة له بشكل مفصّل آملاً من خلال ذلك أن يتسنى للمصمّمين الحضريين اتخاذ قرارات أفضل وأكثر استنارة تحترم تاريخ المدينة وتنوّع سكانها.

نركّز في هذا المنشور على إحدى أبرز أدوات صليبا وهي "الصورة الذهنية" التي صُمّمت لاستكشاف انطباعات  تصورات الناس عن المساحات الحضرية وآرائهم عنها. يتحرّى صليبا وطلابه في كتابه عن وسط بيروت التجاري من خلال تمرين الصورة الذهنية. في هذا التمرين، يطلب طلاب صليبا من أشخاص أجروا معهم مقابلات شخصية رسم خريطة لوسط بيروت التجاري والتركيز على الملامح المكانية الأكثر أهمية وإثارة للاهتمام. سُمح لهؤلاء الأشخاص بتفسير المصطلح  كما يحلو لهم ثم طُرحت عليهم مجموعة من الأسئلة حول آرائهم عن إعادة إعمار وسط بيروت التجاري وقيمته والملامح المكانية التي ينبغي الحفاظ عليها (إن وجدت) ومدى تذكّرهم للتغيّرات التي سبقت الحرب في تلك المنطقة.

نتج عن هذا التمرين مجموعة من الانطباعات التصورات عن وسط بيروت. تظهر الرسومات التي استعرضها صليبا وطلابه في الكتاب تنوع وجهات النظر لدى المشاركين في المقابلات الشخصية/المستجوَبين حول المنطقة (رؤية علوية، نظرة مقرّبة) وحدودها (الشوارع الرئيسية وسائر المدينة) والأشكال المحدِّدة  للمشهد الطبيعي فيها (ساحة مغلقة، شارع طويل، إلخ..) والنشاطات والخدمات التي يشتمل عليها المشهد.

توزّع المستجوَبون على ثلاث فئات عمرية: فئة تضم أفرادًا لم يتجاوزا سن الـ 25 وفئة تضمّ مستجوبين تتراوح أعمارهم بين 25 و45 وفئة تضمّ أشخاص تجاوزوا سن الـ 45. ثم وضع خريطة توليفية "للصورة الذهنية" تلخص رسومات كل فئة عمرية باعتبارها صورة واحدة لوسط بيروت التجاري. ضمّت خريطة الصورة الذهنية الخاصة بالأشخاص الذين لم يتجاوزوا سن الـ 25 طريقًا واحدًا ومنطقة واحدة ونقطتين وثلاثة معالم. ويرمز مفتاح الخريطة إلى "مستوى الظهور" – أي عدد المرات التي تظهر فيها كل ملمح مكاني في الرسوم. تظهر خريطة فئة ما دون سن 25 – بالمقارنة مع خريطتي فئة سن 25 إلى 45 وفئة ما فوق سن 45 – ضآلة الملامح المكانية للمنطقة وتناثرها. فساحة النجمة (البرج) تبدو كنقطة ومعلم في الوقت نفسه، وقد تكرّرت في جميع رسومات المستجوَبين من تلك الفئة العمرية. أما ساحة النجمة (نقطة) فعدد مرات ظهورها في الرسومات – بحسب ملخّص صليبا – أقل من نصف عدد مرات ظهور ساحة الشهداء. ويظهر مبنى العازارية (معلم) صغيرًا جدًا بالمقارنة معه. أما شارع المصارف ومنطقة المصارف فيبرزان بوضوح في الخريطة المركبة (التوليفية) حيث يتكرر ظهور شارع المصارف بشكل كبير في الرسومات بينما تظهر منطقة المصارف بشكل متوسط.
"الصورة الذهنية" لوسط بيروت لدى فئة ما دون سن 25
"الصورة الذهنية" لوسط بيروت لدى فئة ما دون سن 25
شملت الصورة الذهنية للفئة العمرية المؤلفة من أفراد تتراوح أعمارهم بين سن 25 و45 جميع الملامح المكانية التي شملتها خريطة فئة ما دون سن 25، إلى جانب الكثير من الملامح الأخرى. فأظهرت 15 مسارًا و10 مناطق وخمس نقاط و25 معلمًا بارزًا. ظلّت ساحة الشهداء أبرزها، بالإضافة إلى شارع  المصارف ومنطقة المصارف، فضلاً عن عدد من المباني الحكومية والأماكن الترفيهية (خاصةً دور السينما وبعض المطاعم) والمساجد والكنائس. ويظهر تقاطع المسارات فيما بينها اهتمامًا جماعيًا بالطرق المتعدّدة التي تمرّ في وسط بيروت التجاري. المناطق بمعظمها مؤلفة من أسواق مستطيلة الشكل تتوافق مع مسار متراكب يمرّ بالسوق أو المنطقة. أما الاستثناء الوحيد لهذا الشكل فكان الحيّ الأحمر شرق الخريطة: وهي بمثابة ساحة كبرى مجاورة لساحة الشهداء.
"الصورة الذهنية" لوسط بيروت لدى  فئة ما بين سن 25 و 45
"الصورة الذهنية" لوسط بيروت لدى فئة ما بين سن 25 و 45
تُعدّ الصورة الذهنية للأشخاص الذين تجاوزوا سن 45 الأكثر تفصيلاً بين الخرائط الثلاث فهي تحتوي على 21 مسارًا و14 منطقة وخمس نقاط و26 معلمًا بارزًا. يتكرر ظهور المسارات والمناطق في جميع الرسومات أكثر من الخريطتين الباقيتين. كما يتكرّر رسم المسارات المارّة في الأسواق والمناطق، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى حول أطراف وسط بيروت التجاري، وخاصةً الزاويتين الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية. وتظهر أيضًا معالم مرتبطة بالمتاجر الشهيرة والمباني الحكومية والفنادق أكثر من الخريطتين الأخرتين. وهناك فرق شاسع بين هذه الخريطة تحديدًا والصورة الذهنية للأشخاص دون سن 25 وذلك لاحتوائها على تفاصيل غنية ورؤية شاملة لوسط بيروت التجاري.
"الصورة الذهنية" لوسط بيروت لدى  فئة ما فوق سن 45
"الصورة الذهنية" لوسط بيروت لدى فئة ما فوق سن 45
أما الخريطة الأخيرة – وهي خريطة مركّبة (توليفية) تجمع ما بين الخرائط الثلاث – فتكشف عن مناطق الكثافة والتناثر في وسط بيروت، حيث تظهر الزاوية الجنوبية الغربية فارغة، بينما يظهر مساران لا يتكرران كثيرًا في الرسومات وبعض المعالم الأساسية على الزاوية الجنوبية الشرقية. ينصب الاهتمام على وسط بيروت والمنطقة الواقعة شماله، حيث يتكثّف ظهور مسارات متكرّرة وغير متكرّرة في الرسومات، بالإضافة إلى المعالم البازرة والمناطق، مع التركيز على المنطقة المحيطة بساحة الشهداء والأسواق الواقعة في الوسط وعلى الأطراف الشمالية الغربية لوسط بيروت التجاري.
خريطة مركّبة ( توليفية) لجميع الفئات العمرية
خريطة مركّبة ( توليفية) لجميع الفئات العمرية
 إن "التصوير الذهني لوسط بيروت التجاري" الذي يقدّمه صليبا وطلابه هو بمثابة نافذة للاطلاع على المدينة إذ يحمل في طياته معانٍ كثيرة مختلفة ويمثّل أهمية كبرى بالنسبة إلى سكانها. يُظهر صليبا من خلال تصنيفه للصور حسب الفئة العمرية وتوليفه لها في الخريطة المركبة تقاطع أفكار السكان عن مدينتهم على تنوع اختلافاتهم الظاهرة في الرسومات. ويلمّح العمل إلى وجود ذاكرة جماعية – أي مخزون من الأفكار والتصوّرات التي يتشاركها البيروتيون حول المساحات الحضرية.  كما يُظهر هذا العمل أهمية التصميم الحضري والعمارة في الأماكن ذات الأهمية المشتركة ضمن المدينة التي استباحتها النزاعات والانقسامات طويلاً، ويقدّم نهج التصوير الذهني للأكاديميين في مجال التصميم والتخطيط الحضري كوسيلة لاستكشاف المدينة عبر الذاكرتين الفردية والجماعية في آنٍ واحد.

ستبقى مقاربة صليبا للحيّز الحضري باعتباره نقطة التقاء وتفاعل أساسية وحيوية بين الناس وبيئتهم مرجعًا لأعمال زملائه وطلابه من بعده. تسترعي أساليب صليبا في البحث الحضري الانتباه إلى العناصر غير المادية والمادية، والاجتماعية والمبنية، والمتخيّلة والواقعية على حدّ سواء. لطالما شجّع صليبا المصمّمين الحضريين على تبنّي المسؤولية حيال المدينة وحمل لواء الدفاع عن سكانها والأماكن ذات القيمة المشتركة فيها، سواء كانت ترفيهية أم دينية، والسعي لمناصرة الحياة الحضرية الجماعية البهيجة من خلال مسيرتهم المهنية.

يستند كتاب  Mental image of the Beirut Central Business District :Morphological Investigation of Downtown Beirut  إلى استديو تصميمي كان يُدّرس من قبل روبير صليبا وقسم  في قسم العمارة في الجامعة الأميركية في عام 1990. شارك الطلاب الواردة أسماؤهم في ما يلي في هذا الاستديو: جمانة عبد الله، غازي باقر، وليد دلول، رنا حجي، محمد قازان، ماتيلدا خوري، جورج مفرج، دينا نشار، لينا ريس، هاني سوبرة، محمد الحركة، مازن بلعة، جوزيف اصطفان، إيهاب قصان، منى خشن، سامر محيو، زياد نجار، بلال رعد،  شكيب ريشاني، أمل طه.

 يتوفّر الكتاب في مكتبة الهندسة والعمارة في الجامعة الأميركية في بيروت. (رقم الاستدعاء: 711.409:M871m:c.1)
الأستاذ روبير صليبا (1950 - 2022)