تستمر إسرائيل بتوسيع حربها الضارية على لبنان موقعةً المزيد من المناطق والمواقع في مرمى نيرانها. أما أهوال هذا العدوان من خسائر في الأرواح والمنازل والبنى الاجتماعية والتحتية والتراث والأراضي، عدا عن تدمير النسيجين القروي والمديني، فتفوق الوصف.

منذ 24 أيلول 2024، يرصد مختبر المدن في بيروت تهديدات الإخلاء التي ينشرها الجيش الإسرائيلي على حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "إكس" والتي يحذّر فيها السكان المدنيين في جنوب بيروت من غارات وشيكة . يسجّل المختبر من خلال هذه الخرائط توزيع الضربات الإسرائيلية المعلنة وموقعها وحدّتها، مضيفًا خرائط مشابهة تغطي مدينة صور (جنوب لبنان) ومناطق ومواقع أخرى يستهدفها العدوان الإسرائيلي فور إنتاجها. 

الضاحية

لطالما اعتُبرت الضاحية "الغيتّو الشيعي" أو "معقل حزب الله" وهو افتراض يجرّد سكانها البالغ عددهم 700 ألف نسمة من إنسانيتهم ويوسمهم طائفيًا ويحوّل نسيجها الاقتصادي والاجتماعي الحيوي والمتنوع إلى مجرّد متراس للأسلحة. إن انتاج حيّز الضاحية كقطاع اجتماعي وسياسي متنازع عليه فيما يتعلّق بحزب الله وجهات أخرى موضوع معقّد، مُلخّص هنا.

 

تبلغ مساحة الضاحية 15,4 كيلومترًا مربعًا (علمًا أن مساحة بيروت الإدارية هي 21,3 كيلومترًا مربعًا) وتشمل أربع بلديات هي الغبيري وحارة حريك وبرج البراجنة والمريجة-الليلكي-التحويطة، إضافةً إلى أقسام من بلديات الشياح والحدث والشويفات. تضمّ هذه المناطق عشرات الأحياء السكنية التي، كغيرها من أحياء بيروت الكبرى، تضجّ بالحياة وتتمركز حول البيوت والأسواق والمخابز والمتاجر والمكتبات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمطاعم والمقاهي والمساجد والمدراس والجامعات والمرافق الطبية والرياضية والمباني الحكومية والمساحات العامة والمفتوحة.

 

منذ 27 أيلول 2024، استهدفت إسرائيل الضاحية بـ 279 ضربة معلنة دمّرت 361 مبنى على الأقل، وبلغ متوسّطها 4,5 ضربات يوميًأ.1 في أشدّ الأيام عنفًا خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر، تعرّضت الضاحية لأكثر من 10 ضربات يوميًا. شنّت إسرائيل أعنف هجماتها على الضاحية مسدّدةً 34 ضربة معلنة في الليلة التي أُعلن فيها عن وقف إطلاق النار. وحارة حريك هي أكثر تلك البلديات تضرّرًا، حيث دُمّر 128 مبنى فيها، تليها الحدث (67 مبنى) والغبيري (62 مبنى). تُرافق الضربات المعلنة ضربات إضافية غير معلنة لا تظهر في هذه الخريطة.

 

يطبّق العدوان الإسرائيلي على أحياء جنوب بيروت "عقيدة الضاحية" (التي بدأها خلال حرب 2006 على لبنان)، والتي يتعمّد فيها القضاء على أيّ إمكانية للحياة في ذلك المكان والتهجير القسريّ للسكّان. هذا العدوان، وفقًا لبحث مارتن كاورد، هو أشبه بالإبادة المدينية، أي التدمير المتعمّد للمباني والبنى التحتية بحيث تُعرقَل الشبكات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ويُهجّر السكان وتمحى الذاكرة الجماعية المرتبطة بالمكان.

1 يتسّع نطاق الضرر عند حساب الضربات غير المعلنة. فبحسب المجلس الوطني للبحث العلمي شنّت إسرائيل 358 ضربة (معلنة وغير معلنة) على الضاحية بين 27 أيلول و21 تشرين الثاني 2024 ألحقت أضرارًا متفاوتة الحدّة بـ 1,821 مبنى.

صور

تتربّع مدينة صور على عرش قلوب اللبنانيين نظرًا لسحر هذه المدينة الساحلية ذات الشواطئ الرملية الفريدة وأسلوب الحياة الهادئ. تشتهر صور بمرفأ الصيادين القديم وشوارعها المتعرّجة الضيقة وكورنيشها البحري الطويل الذي يرحّب بالزائرين يوميًا طوال أشهر الصيف الحارّة. كما تُعرف المدينة بالمواقع الأثرية الرومانية (ميدان سباق الخيل والحمّامات) بالإضافة إلى كاتدرائية صور وهي من بقايا إحدى الكنائس الصليبية.

بين 17 تشرين الأول/أكتوبر و28 تشرين الثاني/نوفمبر، تعرّضت مدينة صور وجوارها للقصف المتواصل، وأُفرغ وسط المدينة التاريخي من السكان بعد تلقيهم 10 من أصل 27 تهديدًا بالإخلاء التي استهدفت 50% من مجموع نسيجها السكاني.1 ومن الممكن أن يكون حيّ الحوش شرقي صور قد تلقى أعنف الضربات وأكثرها منهجية حيث سُوَّيَ عشرات المباني السكنية الحديثة المتعددة الطوابق أرضًا.

 بشكل عام، تلّقى نحو 29% من مباني المدينة وجوارها، أي ما مجموعه 4,500 مبنى تقريبًا، تهديدات مباشرة بالإخلاء تبعها قصف عنيف ألحق أضرارًا جسيمة بنسيجها العمراني.

1 تعرّض 3,498 مبنى لدمار كلي أو جزئي وفقًا لتقرير موئل الأمم المتحدة " تقييم دمار المباني وكميات الحطام في المناطق المتأثرة بالنزاع في لبنان: محافظتي الجنوب والنبطية".

بعلبك

تُعدّ بعلبك ذات التاريخ العريق الذي يزيد عن 11,000 عامًا مهدًا للحضارات القديمة كالفينيقية والإغريقية والرومانية وأحد أهم المواقع السياحية في لبنان. تشتهر بعلبك الواقعة على طرف سهل البقاع الخصب بهياكلها العديدة، أبرزها الأعمدة الستة، والتي أُدرجت ضمن مواقع التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو. كما عزّز مهرجان بعلبك الصيفي الذي يُقام سنويًا من موقع المدينة الثقافي وخاصةً خلال سنوات ما قبل الحرب الأهلية حيث كان مقصدًا لعمالقة الموسيقى. أما الأحياء الحضرية المحيطة بها فهي الأقل شهرة في المدينة والتي تضمّ المرجة المتصلة بموقع الهياكل عبر قنوات مائية والشوارع المتعرجة المحاطة بالبيوت التقليدية المصنوعة من الطين والمباني الحجرية الفخمة الأكبر منها حجمًا التي شُيّدت في مطلع القرن الماضي. تشهد هذه الطبقات العمرانية العديدة على تنوّع المدينة الثقافي والاجتماعي وإرثها التاريخي المعقّد.

وبالرغم من تاريخها الثقافي الغنّي، لم تحظى منطقة بعلبك باهتمام كافٍ من الدولة فعانى سكانها من الفقر والحرمان. كما ترتبط بعلبك ارتباطًا سياسيًا وثيقًا بحزب الله منذ أواسط الثمانينيات، وهي مسقط رأس العديد من الشخصيات البارزة فيه.

تعرّضت بعلبك لقصف إسرائيلي عنيف خلال العدوان الأخير على لبنان فاق كل الحروب السابقة، إذ لم تقع المدينة وهياكلها فحسب ضمن نطاق تهديدات الإخلاء التي نشرها الجيش الإسرائيلي بل الحقول الزراعية المحيطة بها ضمن مساحة 24,2 كيلومترًا مربعًا. علاوةً على ذلك، نُشرت تهديدات عديدة بإخلاء مواقع قريبة من معبدي جوبيتر وميركوري. وقد حرّكت صور الدخان المتصاعد من المدينة وفي خلفيتها الهياكل احتجاجات السكان على امتداد الأراضي اللبنانية وأثارت مخاوفهم من أن يكون هذا الرمز الوطني قد تعرّض لأضرار طويلة الأمد جراء العدوان.